النظام الجبائي مدخل للعدالة

 يمكن إعتبار الضريبة كمساهمة نقدية، تحصل من الأشخاص الذاتيين والمعنويين بصورة اٍجبارية ونهائية و بدون مقابل، وذلك قصد تمويل النفقات العمومية. ومن خصائصها الإجبارية و النهائية والمجانية، إضافة إلى خاصية العمومية. ويكمن التمييز بينها وبين الرسم، في أن أداء الضريبة لا يرتبط بالمقابل، على خلافا الرسوم والتي تعتبر مقابلا للخدمات المؤداة. وتتميزالضريبة بمبادئ متعددة نابعة من الدستور والمواثيق الدولية، والتي تتجسد في المشروعية، والمساواة والتي تعني المساواة بين جميع الملزمين المخاطبين بأحكامها في تحمل الأعباء العامة كل حسب قدرته الخاصة في المساهمة، وهذا المبدأ يحيلنا على مبدأ اخر هو العدالة. وللضريبة وظائف مختلفة، تتمثل في الوظيفة الاقتصادية والوظيفة التمويلية، وأيضا الوظيفة الإجتماعية أي أن الضريبة أتت لتصحيح الفوارق الاجتماعية بين فئات المجتمع كإعادة لتوزيع الثروة، في إطار ما يقتضيه واجب التضامن بين أفراد الشعب.

والجدير بالذكر أن النقاش الجبائي العمومي قد شهد في العقود الأخيرة إهتماما متزيدا وملحوضا، وذلك من بين فاعلين متميزين ومتنوعين، منهم ما يمثل مؤسسات دستورية، مثل المجلس الاعلى للحسابات كهيأة عليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، وتدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة. والمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي كهيأة إستشارية، يدلي برأيه في التوجهات العامة للاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة. وأيضا باقي الفاعلين الذين يمكن أن يكونوا ممثلي السلطات العمومية؛ أو ممثلي للمقاولات؛ أو ممثلي للمنظمات وهيئات مهنية.

 أكد مختلف هؤلاء الفاعلين محدودية النظام الجبائي، إذ يشوبه مجموعة المشكلات على كل المستويات الوطني والمحلي، والتي تؤول دون تحقيق هذا النظام لمبتغاه وتنزيل التنمية. وذلك رغم الإصلاحات المتتالية المتخدة خلال عقود من الزمن، خصوصا خلال مرحلة التقويم الهيكلي، وقوانين المالية المتتالية التي تليها، والتي تمت كإستجابة لعدد من التحديات بعضها يكون آني. وتعاقب التعديلات أفرز لنا غياب الإنسجام العام المطرد لمختلف المقتضيات الضريبية.

 إن الوعي المشترك لمختلف الفاعلين والمتذحلين يؤكد القيام بمراجعة شامل متأنية وعميقة لهذا النظام الضريبي الوطني مع ضرورة إعداد تصور شمولي إستراتيجي يخص الجبايات بختلف مكوناتها، وذلك لخلق نظام الجبائي محركة للإقتصاد الوطني، محفزة لإنتاج الثروة، ومحقق للتنمية، ومحقق للعدالة.

 

        إن النظام الجبائي المغربي يعرف مجموعة من الاختلالات تؤول دون تحقيق العدالة والعدالة الاجتماعية، فحسب تقرير المجلس الاعلى للحسابات برسم سنة 2018، بلغت المداخيل العادية للميزانية العامة للدولة خلال سنة 2017 ما مجموعه 229.8 مليار درهم منها 200.5 مليار درهم كمداخيل جبائية والتي سجل إرتفاع 1.2 في المائة مقارنة مع السنة الفارطة، و25.8 مليار درهم كمداخيل غير جبائية و3.5 مليار درهم همت مداخيل متأتية من بعض الحسابات الخصوصية للخزينة. والملاحظ أن المساهمة الكبرى هي للضرائب الغير مباشرة ونعني هنا الضريبة على القيمة المضافة ب81.264 مليار درهم من مجموع المداخيل،  وهذه الضريبة التي يتحملها المستهلك الأخير الذي غالبا ما يكون المواطن، والذي يؤدي إنخفاض نسبة قدرته الإستهلاكية. كما تواجه المداخيل المتأتية من بعض الضرائب خطر إقتصارها على عدد محدود من الملزمين  كما هو الشأن بالنسبة للضريبة على الشركات التي أتت فقط ب51.516 مليار للخزينة، وفي هذا الصدد فقد تم تسديد نصف هذه المداخيل من قبل 74 ملزم فقط أي مايعادل 0.022 في المائة من الخاضعين للضريبة،  75 في المائة من مداخيل هذه الضريبة يتم تسديدها من طرف 654 ملزم فقطأي مايعادل 0.193 في المائة من الخاضعين للضريبة ، و 80 من هذه المداخيل من قبل 1069 مهنم أي مايعادل 0.316 في المائة من الخاضعين للضريبة، في حين يبلغ عدد الملزمين 338579 ملزم، وهذا ما يعبر على إختلال وجيه للمبدأ العدالة الضريبة، والمساواة أمام الملزمين.

أما في مايخص الضريبة على الدخل التي يشكل في 40.516 مليار من مداخيل ميزانية الدولة، فحسب بيانات المديرية العامة للضرائب فإن 70 في المائة من المقاولات الخاضعة لنظام الربح الحقيقي والتي إختارت الخضوع للضريبة على الدخل، تصرح بوجود عجز هيكلي. ومن جهة أخرى فإن النفقات الجبائية تزايد بشكل ملحوظ بحيث يشكل 33.4مليار درهم بزيادة مليار درهم مقارنة مع السنة الماضية، والتي تتمثل في 418 إجراء تم جرده، وشكلت الإجراء ات المتخدة في مجال الضريبة على القيمة المضافة نصف مجموع الإجرءات الإستثنائية الممنوحة وذلك خلال سنة 2017 بكلفة بلغت 16.2 مليار درهم وعلى المستوى التوزيع العقاري لهذه التدابير، إذ تستأثر القطاع العقاري لوحده نسبة 25 في المائة من النفقات الجبائية وذلك عبر 37 تدبيير، بملبغ 8.4 مليار، وترتفع النسبة إلى 48 في المائة إلى عند إضافة قطاعي الإجتماعي والفلاحي. وهذا كله في ظل ما تعرفه هذه القطاعات من مشاكل جوهرية، وفي ظل أيضا الإختلالات التي تؤول دون تدبير جيد للهذه النفقات في غياب قواعد تؤطرها، وتحديد واضح لأهدافها وكلفتها وإطارها الزمني والأهم غياب هيئة مكلفة بقيادتها وتتبعا وتقييمها وتجسيد قواعد الحكامة، والعدالة. كما ولا يخلو النظام الجبائي على المستوى المحلي من هذه الإشكالات، فهو يعاني من محدودية وعائه الضريبي، الناتج عن النسبة الضعيفة للملزمين مما يجعله محدود المردودية، وهنا يمكن الحديث عن مدى تحقيق هذا النظام للعدالة بين المواطنين في تحملهم للعبئ الضريبي. وفي هذا الصدد أقر وزير الاقتصاد والمالية المغربي محمد بنشعبون في المناظرة الوطنية للجبايات برسم سنة 2019 بأن تشخيص قطاع الضرائب يظهرغياب العدالة والتوازن، ويقتضي المراجعة وإعادة النظر في النظام الجبائي. وكشف الوزير أن التحفيزات الضريبية التي تقرها الدولة تكلف ثلاثين مليار درهم (ما يقارب ثلاثة مليارات دولار)، وهو ما يمثل 2.5% من الناتج الداخلي الخام. كما ان 50% من إيرادات الضريبة على القيمة المضافة تأتي من 150 شركة فقط وذلك من مجموع الشركات المصرحة بها (والذي يكشف جليا غياب العدالة والتوازن بين الملزمين). وهذا ما أستشف أيضا من تقرير منظمة أوكسفام، الغير الحكومية "مغرب متساو، جباية عادلة" ،حيث ورد به أن 82% من العائدات الضريبية على الشركات تستخلص فقط من 2% من الشركات وأن المغرب يخسر أكثر من 2.45 مليار دولار سنويا نتيجة التهرب الضريبة، إشارة إلى وجود قصور في النظام الضريبي لتقليص الفوارق .كما لفت الناطق الرسمي باسم الحكومة قبيل المناظرة إلى أن قطاعات واسعة وشرائح خاصة في المهن الحرة لا تقدم أي تصريحات (ضريبية)، مما يجعل الضغط على الضريبة على الدخل مرتبطا بالموظفين والأجراء. وقال إن هذا أحد أوجه الاختلالات التي تنتج حالة من عدم العدالة والإنصاف لأن الضريبة تتركز على فئة دون أخرى. كما قدم المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي  هو الأخر تشخيصا للنظام الجبائي المغربي؛ عبر تقريره " من أجل نظام جبائي يشكل دعامة أساسية لبناء النمودج التنموي الجديد"، وفق من خلاله على الإشكالات والإكراهات التي تعتري النظام الجبائي المغربي، إشكالات مؤسساتية وبنيوية، ترتبط بشكل رئيسي بمحرك العدالة، والتي لاتختلف عن الإشكالات التي قدمها المجلس الأعلى للحسابات. كمثلا اللجوء بكثرة إلى منح الإعفاءات والذي يعزز التفاوتات المجالية، وأيضا مع محدودية خلق الثروة الوطنية في حين أن 6.12 في المائة من المقاولات المصرحة بها فقط تؤدي 95 في المائة من مذاخيل الضريبة علي الشركات وهذا رقم يضرب تماما في مبدأ العدالة. وقد أوضح التقرير الأخير لهذا المجلس عن عدم إستقرار النظام الجبائي المغربي إذ أن أغلب الإصلاحات تكون ناتجة عن ضغوطات أو مفاوضات ناشئة عن رغبة في الدفاع عن مصالح فئوية أو قطاعية.

وفي إطار تجاوز هذه الإكراهات ربط المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي إصلاح النظام الجبائي بركائز متعددة تتمثل في: أن هذا النظام ينببغي أن يكون متصل بمحاور السياسات العمومية، من أجل الإستجابة لأهداف العدالة الإجتماعية، كما على النظام أن يكون فيه توزيع عادل للعبء الضريبي وحماية القدرة الشرائية للطبة المتوسطة، نظام جبائي يتيح إرساء مناخ الثقة بين الإدراة الضربية ودافعي الضرائب. كما ينبغي من جهة أخرى الحرص على الحفاظ بساطة النظام الجبائي، والعمل على دعم وتقييمه، تقييما قبليا وبعديا مما يتيح التحقق من تطابق النتائج المحصلة مع الأهداف المرسوم.

وفي نفس السياق أصدرت المناظرة الوطنية الثالثة مجموعة من التوصيات وجاء تحث على ضرورة الالتزام بواجب الشفافية والحق في المعلومة، والإنصاف الجبائي عبر ترسيخ مبدأ فرض الضريبة على أساس الدخل العام، بالإضافة إلى توسيع مجال الضريبة على القيمة المضافة ليشمل جميع الأنشطة الاقتصادية، وترشيد التحفيزات الجبائية، وإعادة التوزيع الفعال عن طريق الضريبة. كما أوصت المناظرة بمحاربة الرشوة وإحداث مجلس وطني للاقتطاعات الضريبية، وترسيخ المساواة أمام الضريبة، وملاءمة الجبايات مع المنتوجات المالية الجديدة.  وقد أوصت منظمة أوكسفام السالفة الذكر، الحكومة المغربية بإنتاج بيانات إحصائية محدثة ومتاحة للعموم عن تفاوت الدخل وتركيز الثروة. كما أوصت بتبني نظام ضريبي عادل يساهم في تقليص الفوارق الاجتماعية عن طريق تحسين تصاعدية النظام الضريبي في مجمله، ووضع مكافحة التهرب الضريبي على قائمة الأولويات.

وقد لامس اثر هذه التوصيات قانون المالية 2020، حيث وزير المالية أن قانون المالية  أولى  الأهمية لتنزيل التوصيات المنبثقة عن المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات. فثقد تضمن قانون المالية مجموعة من التدابير الرامية  لتخفيف الضغط الضريبي على المقاولات، وخاصة تخفيض السعر الهامشي للضريبة على الشركات الصناعية من 31 إلى 28 في المئة برسم رقم معاملاتها المحلي. كما نص على إحداث ألية التسوية الطوعية للوضعية الجبائية للأشخاص الذاتيين لإرساء مناخ الثقة بين الإدراة الضربية ودافعي الضرائب، وأيضا وسع من مجال تطبيق طلبات الاستشارة الجبائية القبلية، بهدف ضمان الأمن القانوني للمستثمرين واستقرار للعقيدة الجبائية.

ان النظام الضريبي في المغرب يعتمد بشكل اساسي على الضرائب غير المباشرة وخاصة الضريبة على القيمة المضافة، وهذا انشأ إخلالا كبيرا في عدالة النظام الضريبي، حيث لا يميز هذا النوع من الضرائب بين الفقراء والأغنياء، وقد ساهم في تعميق التفاوت الإجتماعي، بسبب مساهمته الأساسية في رفع الأسعار بشكل عام، مما خلق ضغوطا على الطبقات الفقيرة والمتوسطة. ويتسم كذلك بغياب سمة التصاعدية الحقيقية، وبالتالي فهو نظام يفتقر للعدالة الإجتماعية. كذلك يتسم النظام الضريبي المغربي بعدم الكفاءة بسبب عدم قدرته على تحصيل الضرائب من المكلفين، حيث تتفاقم مؤشرات التهرب الضريبي بشكل كبير يستدعي دق ناقوس الخطر. والجدير بالذكر أنه لا يجب الوقوف فقط عند تقديم توصيات، أو إقتراح تدابيير، كما يتم في المناظرات الوطنية، فحسب تقرير المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي الأخير، أنه فقط 32 في المائة من مقترحات فقط هي التي تم إعتمادها، في حين 59 في المائة من مسالك العمل لم يتم العمل بها ، و 9 في المائة من تلك التوصيات تجد صداها في بعض التدابير لكن دون أن يكون ذلك مطابقا للأهداف التي حددتها التوصيات. وبمنطق السياسات العمومية فإن تعريف المشكل العمومي وكيفية ولوجه للأجندة المؤسساتية، يخضع لسيرورة بنائية تفاعلية بين فاعلين متعددين، كل بمنطقه وأهدافه الخاصة، وموارده الخاصة.

ومنه يجب التساؤل هل فعلا تستهدف الحلول المتخذة دائما التسوية أم أن فعل التدخل يأتي بشكل عام للقيام بالتوازنات السوسيوإقتصادية والإجتماعية؟

وخلاصة القول فما الجدوى من القيام بمناظرات وإقتراح توصيات جديدة في حين لم يتم إعتماد سابقتها! بل ما يجب القيام به هو تعريف حقيقي ودقيق للمشكل ثم إعتماده، ثم القيام ببرمجته، تقييمه.



المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق