حدود صلاحيات الجهات المختصة في تذييل الأحكام التحكيمية بالصيغة التنفيذية
حدود صلاحيات الجهات المختصة في تذييل الأحكام التحكيمية بالصيغة التنفيذية
لقد حرصت التشريعات الحديثة ومنها التشريع المغربي، على تكريس مبدأ استقلال التحكيم عن القضاء، وجعلت منه مبدأ إجرائيا أساسيا إلا أن ذلك لا يعني الفصل بينهما بشكل تام ومطلق. وذلك انه بتفحص النصوص القانونية لمجموع التشريعات الحديثة، نجدها قد أحاطت نظام التحكيم بمجموعة من الضمانات تهدف إلى ضمان فعاليته ونجاعته وسرعته، أناطها بالقضاء الذي يتدخل في حدود الاختصاصات المخولة له بناء على طلب الأطراف كلما اعترض الهيئة التحكيمية أو الأطراف صعوبات، خصوصا على مستوى تنفيذ الحكم التحكيمي.
فالمشرع المغربي من خلال القانون 05_08 خول لرئيس المحكمة مراقبة مدى احترام المقرر التحكيمي للنظام العام وكذلك مراقبة موضوع النزاع إذا كان من المسائل التي يجوز فيها التحكيم، وأيضا التأكد من عدم المساس بالقواعد الجوهرية التي يترتب على مخالفتها بطلان المقرر التحكيمي.
والمشرع في ظل القانون المذكور حدد حالات الطعن بالبطلان في الفصل 36_327 ويمكن القول أن سلطات رئيس المحكمة محددة في مراقبة مدى احترام المقرر التحكيمي للمقتضيات القانونية المنصوص عليها في التحكيم. و هكذا سنتطرق لحدود سلطة القضاء في تذييل الاحكام التحكيمية عبر فقرتين:
الفقرة الأولى: رفض الصيغة التنفيذية بسبب مخالفة النظام العام
یتحدد في كل دولة عادة نطاق المنازعات التي یجوز حسمها بواسطة التحكیم وذلك في ضوء العوامل السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة العلیا للدولة، ویقع على المشرعین والقضاة في مختلف الدول مسؤولیة تحدید التوازن بین المصالح القومیة المحلیة والتي تقتضي إبقاء منازعات معینة في نطاق اختصاص محاكم الدولة، وبین المصالح التي تتطلب العمل في حسم منازعاتها بسرعة وبطرق یسیرة بواسطة التحكيم وقد أحسن المشرع المغربي صنعا[1] بوضع نص في الفصل 309 من القانون 05-08 " لا یجوز أن یبرم اتفاق التحكیم بشأن تسویة النزاعات التي تهم حالة الأشخاص وأهلیتهم أو الحقوق الشخصیة التي لا تكون موضوع تجارة”. وكما جاء في الفصل 310 من نفس القانون “على أنه لا یجوز أن تكون محل تحكیم النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادیة للدولة أو الجماعات المحلیة أو غیرها من الهیئات المتمتعة باختصاصات السلطة العمومیة”.
ولا شك أن كل الصیاغات التي جاءت في القانون تترك المجال واسعا أمام القضاء لتحدید ما یمكن أن یكون موضوع تحكیم وما یخرج عن ذلك وفقا لكل حالة على حدة وفي ضوء المعاییر والحدود التي وضعها المشرع، وانطلاقا من هذا الطرح یتبین لنا جلیا أن النزاعات
التي لا یجوز أن تكون محل تحكیم تكمن فیما یلي:
– المسائل المتعلقة بالنظام العام.
– النزاعات المتعلقة بالجنسیة.
– النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصیة التي لاتخضع للتحكیم باستثناء الخلافات المالیة الناشئة عنها.
– المسائل التي لا یجوز فیها الصلح تكریسا لقاعدة ما لا یجوز فیه الصلح لا یجوز فیه التحكیم.
– النزاعات المتعلقة بالدولة والمؤسسات العمومیة والجماعات المحلیة إلا إذا كانت هذه النزاعات ناتجة عن علاقات دولیة ذات طابع اقتصادي أو تجاري[2]…
إن فكرة النظام العام تعد بمثابة صمام الأمان بید القاضي الوطني الذي یحمي اللبنة الأساسیة في المجتمع من القوانین الأجنبیة، إذ أن هذا النظام بطبیعته مفهوم مرن یتغیر و یتطور بمرور الوقت و تغیر القوانین مما یصعب تحدیده و حصره، وبصفة عامة یمكن القول أن النظام العام هو مجموعة من المصالح الأساسیة أو الاجتماعیة أو الاقتصادیة التي یقوم علیها كیان المجتمع، و التي یهدف من ورائها تحقیق مصلحة عامة و من ثم وجب على جمیع الأفراد أن یحترموا كل ما یتعلق بالنظام العام حتى ولو كان ذلك تضحیة بمصالحهم الخاصة.
و إذا كانت أحكام التحكیم الداخلیة لا تطرح إشكالات كثیرة على مستوى تذییلها بصیغة التنفیذ على اعتبار أن قانون 08.05 كان صریحا في هذه المسألة ناهیك على أن العمل القضائي أفرز النزاعات التي تدخل في صمیم هذا النظام من عدمها، غیر أن تنفیذ الأحكام الصادرة في مجال التحكیم الدولي یثیر بعض الصعوبات.
الفقرة التانية: حالات رفض إضفاء الصیغة التنفیذیة لحكم التحكیم بسبب الاتفاق التحكيمي
تجدر الإشارة بدایة أن نفس الشروط المتعلقة برفض التنفیذ تنطبق على أحكام التحكیم الداخلیة و الدولیة لأن المشرع لم یضع فرقا بین المقتضیات الواردة في الفصل 327.36 الخاص بالتحكیم الداخلي وبین الفصل 327.49 الخاص بالتحكیم الدولي، حیث رسمت التشریعات المقارنة وأیضا القانون الداخلي المغربي مجموعة من الضوابط التي بمقتضاها یتم رفض منح الصیغة التنفیذیة لحكم التحكیم، غیر أن هذه الضوابط منها ما یثیره الطرف الذي صدر الحكم في مواجهته، ومنه ما تثیره المحكمة من تلقاء نفسها كعدم قابلیة النزاع
للتحكیم مما یؤدي إلى رفض القاضي المختص لإسدال هذا الحكم بتأشیرة العبور قصد تنفیذه.
إن مرحلة صدور الحكم التحكیمي تعد محطة رئیسیة تأتي بعدها مجموعة من الإجراءات قصد الحصول على صیغة تنفیذیة من أجل التنفیذ الجبري في مواجهة الطرف الذي صدر الحكم التحكیمي ضده، غیر أن هذا الأخیر یمكنه أن یتقدم بطلب إلى رئیس المحكمة
المختصة لیمنع إكساء الحكم التحكیمي بالصیغة التنفیذیة وذلك إذا توافرت الحالات التي سنعمل على سردها توالیا في ضوء كیفیة تعامل القضاء مع هذه الحالات.[3]
- 1- عدم صحة اتفاق التحكیم
یعتبر اتفاق التحكیم الأرضیة الأساس في العملیة التحكیمیة فهو بمثابة مرجع لمعرفة تفاصیل إرادة أطراف النزاع في الإحالة على المحكمین وقد یأخذ هذا الاتفاق صورة شرط یعمل الأطراف على إدراجه في العقد وهذه الحالة تسمى شرط التحكیم، وإما أن یأخذ صورة أخرى وهو اتفاق التحكیم ویتم هذا المقتضى بعد نشوء النزاع، ومهما كانت الصورة التي یأخذها هذا الاتفاق فلا بد من توفر الشروط الموضوعیة اللازمة لانعقاده وهی كل من الرضا و الأهلية والمحل والسبب[4]، ناهیك عن الشروط الشكلیة المتمثلة أساسا في الكتابة وكذا تحدید موضوع النزاع، وكما هو معلوم أن الرضا یتحقق بین الطرفین بتوافق إرادتهما على التحكیم دون أن یشوب هذا التراضي غلط أو تدلیس أو إكراه حسب ما ورد عن هذه العیوب من مفاهیم ضمن القانون المدني بشكل عام، وهذه الإرادة لا یشترط أن تكون صریحة وإنما یمكن أن تكون ضمنیة تستنتج من معاملات الأطراف السابقة و إیرادهم لشرط التحكيم في عقود من نفس طینة العقد الذي أغفلوا فیه ذكر شرط التحكیم لتسویة ما قد ینشأ عنه من منازعات.
وبالرجوع إلى اتفاقیة نیویورك لسنة 1958 فإن أول شرط وضعته من أجل صحة اتفاق التحكیم هو شرط الأهلیة، فقد نصت في الفقرة الأولى" أ" من المادة الخامسة على رفض تنفیذ حكم التحكیم بسبب انعدام أهلیة الأطراف حیث جاء فیها على أنه: ” یجوز للدولة رفض
الإعتراف وتنفیذ حكم التحكیم إذا قدم الخصم للسلطة المختصة في الدولة المطلوب التنفیذ فیها على أن أطراف اتفاق التحكیم كانوا عدیمي الأهلیة طبقا للقانون الواجب التطبیق علیهم”.
إذن فالاتفاق هو أساس التحكیم فإذا تخلله عیب فإن من شأن ذلك أن یؤثر على عملیة التحكیم برمتها وبالتالي الحكم الناتج عنها فیعیق طلب تنفیذه، والمشرع المغربي شأنه في ذلك شأن باقي التشریعات التي تنهج الأسلوب اللاتیني ، أورد في الفقرة الثالثة من الفصل 327.36 من القانون 08-05 على أنه: “لا یكون الطعن بالبطلان ممكن إلا في الحالات الآتیة: -
إذا صدر الحكم التحكیمي في غیاب اتفاق التحكیم أوإذا كان اتفاق التحكیم باطلا، وینبغي حتى تكون عملیة التحكیم صحیحة ویتسنى بذلك تنفیذ حكم التحكیم سواء في الدولة التي صدر فیها أو في دولة أجنبیة أن یكون هناك اتفاق تحكیم صحیحا فعالا وساریا حتى لحظة صدور الحكم، وتجب الإشارة أن العقد المتضمن لشرط التحكیم لا یبطل إذا كان شرط التحكیم ذاته باطلا نظر لاستقلالیة شرط التحكیم عن العقد الأصلي فإذا لم یكن هناك اتفاق على التحكیم أو كان شرط التحكیم باطلا أو سقط بانتهاء مدته، فإن ذلك یجعل الحكم مفروغا من محتواه ولا أساس له، وبالتالي یمكن للمنفذ ضده أن یطلب رفض تنفیذ هذا الحكم أو أن یرفع دعوى بطلان حكم التحكیم
- 2 - انتهاك حقوق الدفاع في الدعوى التحكیمیة.
یعتبر حق الدفاع أمام القضاء من الحقوق الإجرائیة الأصیلة، إذ یتمثل في مجموعة من الضمانات الإجرائیة التي تتیح للخصم أن یقدم وجهة نظره في الخصومة القضائیة أو التحكیمیة والتي یكون طرفا فیها، وأن یناقش ما قدم فیها من عناصر قانونیة واقعیة.[5]
وعلى هذا الأساس فقد أقرت المادة الخامسة من اتفاقیة نیویورك في الفقرة الأولى"ب" على أنه “یجوز للدولة المطلوب منها تنفیذ حكم التحكیم الأجنبي على أرضها أو الاعتراف به أن ترفض تنفیذ هذا الحكم إذا قدم الخصم المطلوب تنفیذ الحكم علیه أنه لم یعلن إعلانا صحیحا بتعیین المحكمة أو بإجراءات التحكیم أو كان من المستحیل علیه لسبب آخر أن یقدم دفاعه”.
وهذا المقتضى اقتبسه المشرع المغربي من خلال الفصل 327.36 الفقرة الخامسة وجعله في الحالات التي توجب الطعن بالبطلان في حالة ما إذا تعذر على طرف تقدیم دفاعه بسبب عدم تبلیغه تبلیغا صحیحا عند تعیین المحكم أو أي سبب أخر یتعلق بواجب احترام حقوق الدفاع.
إن الحق في الدفاع من المبادئ الرئیسیة التي لا یمكن إنكارها والذي یدخل بین ثنایاه مبدأ التواجهیة الذي یعتبر تعبیرا واضحا على معاملة أطراف التحكیم على قدم المساواة وإتاحة لكل منهما فرصا كاملة ومتكافئة لعرض دعواه و دفوعاته وممارسة حقه في الدفاع[6]
لكن بالرجوع إلى القانون المغربي فبالرغم من أن المشرع من خلال الفصل 327.10 قد حدد الأمور التي تشكل ضربا صارخا في مبدأ الحق في الدفاع.
3- عدم احترام المحكمین للمهمة المخولة لهم من قبل الأطراف
إن التحكیم نظام اتفاقي في نشأته وبما أن اتفاق التحكیم یعد بمثابة خریطة الطریق التي تسیر على هدیها الهیئة التحكیمیة، فإن هذه الأخیرة ملزمة باحترام إرادة الأطراف وعدم تجاوز الحدود المرسومة على اتفاق التحكیم، فإذا حدث أن بت المحكم في نزاع لم یتم الاتفاق على عرضه أمامه من قبل الأطراف أو فصل في النزاع المعروض علیه والمضمن أساسا باتفاق التحكیم لكنه تجاوز حدود الاتفاق موضوع التحكیم، فیجوز في هذه الحالة أن یلجأ الطرف المنفذ علیه الحكم التحكیمي أن یرفع دعوى بطلان الحكم التحكیمي.
فإذا صدر حكم التحكیم خارقا لهذه الحدود كأن یفصل المحكم في مسألة لا یشملها الاتفاق أو حكم بما لم یطلب منه الخصوم، یمكن حینها المطالبة ببطلان هذا الحكم[7]،وعلیه فإن رئیس المحكمة بصفته قاضیا للتذییل بالصیغة التنفیذیة یحق له إما أن یرفض طلب التذییل أو أن یستجیب له من غیر إمكانیة الحكم بعدم الإختصاص لوجود منازعة جدیة في الموضوع، ما دام نطاق وحدود اختصاصه لا یمتد إلى جوهر النزاع من جهة، ولأن اختصاصه للنظر والبت مقرر بنص خاص لا یرجع بشأنه إلى القواعد العامة المؤطرة للقضاء الاستعجالي أو الولائي[8].
4-عدم صحة تشكیل الهیئة التحكیمیة أو الإجراءات التحكیمیة.
إذا أثبت المنفذ ضده أن تشكیل هیئة التحكیم أو أن القواعد الإجرائیة للتحكیم في حالة عدم الاتفاق لم تراعى في عملیة التحكیم فإن القاضي یرفض تنفیذ ذلك الحكم التحكیمي، إذ إن من أهم الضوابط المطلوبة لتنفیذ هذا الحكم أن تكون مسطرة التحكیم غیر مشوبة بعیب إجرائي
ابتداء من إبرام اتفاق التحكیم ومرورا بمرحلة تشكیل الهیئة التحكیمیة وصولا إلى صدور الحكم التحكیمي.
فإذا كان المحكم الذي تم تعیینه شخصا قاصرا أو محجورا علیه (كالمجنون أو السفیه أو المعتوه كل هذه الحالات التي أوردناها إذا توفرت إحداها أو جلها في المحكم الذي أصدر الحكم فإن هذا الأخیر یكون معرضا للبطلان[9]، بالإضافة كذلك إلى أن قیام أحد أسباب
التجریح في شخص المحكم عند تعیینه بدون إخبار الطرفین المتنازعین بأسباب التجریح[أو قبول المحكم للمهمة المسندة إلیه بالرغم من ذلك، فإن الحكم الصادر عن هذا المحكم یعد مخالفا للقانون مما یدعو إلى بطلانه بناءا على الطلب الذي تمسك بهذا الأمر.
ومن جهة أخرى تعد من الأسباب الرئیسیة التي تؤدي إلى بطلان حكم التحكیم بعد صدوره، تشكیل الهیئة بعدد مزدوج فإذا باشرت هیئة التحكیم عملها بعضوین بدلا من عدد فردي كأن یحدث تخلف أحد المحكمین لظروف شخصیة أو قوة قاهرة، كان الحكم الصادر باطلا لعیب في تشكیل الهیئة التحكیمیة وعدم قانونیتها، على اعتبار أن العدد لم یصبح فردیا وبالتالي تبطل كافة الإجراءات التي تتم في ظل التشكیل المزدوج لهیئة التحكیم.
[1] مصطفى بونجة، التحكيم الداخلي و الدولي في العقود الإدارية بالمغربية،ص 113
[2] مصطفى بونجة، نهال اللواح، التحكيم في المواد التجارية الإدارية و المدنية، دراسة لأهم الإشكالات العملية و النظرية وفقا للقانون المغربي و القوانين المقارنة، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الأولى السنة 2015 ، الصفحة 282
[3] يوسف المخلوفي، الموانع القانونية لإصدار الأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي و موقع النظام العام دراسة في ضوء الاجتهاد القضائي المغربي و المقارن، الموقع الالكتروني www.droitentreprise.com تاريخ الاطلاع الخميس 31 دجنبر 2020 على الساعة السادسة مساء
[4] ادريس العلوي العبدلاوي، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، نظرية العقد، الطبعة الأولى، الجزء الثاني سنة 1996، الصفحة 228
[5] قرار عدد 291 الصادر 7 مارس 2010، ملف عدد 04/19 صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء منشور ، عمر أزوكار، التحكيم التجاري الداخلي و الدولي بالمغرب، قراءة في التشريع و القضاء،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء،2015 الصفحة 317
[6] الفصل 10-327 البند 3 من قانون 08-05، مرجع سابق
[7] الفصل 32-327، البند3 من قانون 08-05، مرجع سابق
[8] عمر أزوكار، مرجع سابق الصفحة 206-207