مفهوم القرار الإداري


إن الهدف من تحديد القرار الإداري هو معرفة طبيعة النشاط الذي تمارسه الإدارة باعتباره عملا تلعب فيه هذه الأخيرة دورا رئيسيا، فالإدارة لا تقتصر مهمتها على القيام بنوع معين من الأعمال، ذلك أن نشاطها يتنوع حسب الأهداف والمجالات، وكذلك حسب الأطراف المعنية بهذا النشاط، وهذا التنوع في النشاط الإداري ينعكس بالضرورة على القرارات التي تتخذها الإدارة، وذلك من حيث طبيعتها وكذا نظامها القانوني.
وانطلاقا من هذا التنوع، يمكن القول بأنه إذا كانت القرارات الإدارية تتميز بكونها قرارات نافذة، نظرا لما تتمتع به من صفة الانفرادية التي يضفى عليها طابع السلطة العمومية التي تتوفر عليها الإدارة، فإن هذه الصفة قد تغيب بخصوص بعض الأعمال التي تقدم عليها هذه الأخيرة، ومن ثم أمكن القول بأن الأعمال التي تقوم بها الإدارة منها ما يتوفر على الطابع الانفرادي، ومنها ما ينعقد لهذا الطابع.
وبناءا على هذا الوضع، يتضح أن تحديد القرار الإداري، يقتضي البحث في طبيعته وذلك من خلال التعريف الذي أعطي له، ومن خلال تمييزه عن الأعمال الإدارية الأخرى وتوضيح أركانه ثم بيان أنواعه.
e   المطلب الأول : القرار الإداري – تعريفه – معايير تمييزه
× الفرع الأول : تعريف القرار الإداري
لم يضع المشرع الإداري تعريفا معينا للقرار الإداري، ولهذا كان المجال رحبا لاجتهادات الفقه والقضاء الإداريين في محاولة لوضع تعريف جامع للقرار الإداري[1].
وقد استقر كل من الفقه والقضاء الإداريين على تعريف القرار الإداري أيا كان نوعه على أنه عمل قانوني نهائي صادر بالإدارة المنفردة والملزمة لجهة الإدارة العامة الوطنية، بما لها من سلطة بمقتضى القوانين والأنظمة، وفي الشكل الذي يتطلبه القانون، بقصد إنشاء أو تعديل أو إلغاء حق أو التزام قانوني معين متى كان ذلك ممكنا أو جائزا قانونا وابتغاء المصلحة العامة[2].
ويستفاد من هذا التعريف أن القرار الإداري يتميز بالخصائص التالية :
Ãأولا : أن القرار الإداري هو عمل قانوني
وهذا الركن يعني أن القرار الإداري يقوم على تعبير الإدارة عن إرادتها بقصد ترتيب أثر قانوني وهذا الأثر القانوني قد يكون : حالة قانونية جديدة أو تعديل مركز قانوني قديم أو إلغاؤه.
وبهذا يختلف العمل القانوني الصادر من جانب الإدارة عن العمل المادي في محل العمل المادي يكون دائما واقعة مادية أو إجراء مثبتا لها دون أن يقصد به تحقيق آثار قانونية معينة...
فالعمل المادي الصادر عن الإدارة يكون في الغالب (واقعة مادية ) دون أن يتجه قصدها إلى إحداث أثر قانوني –أي إنشاء حقوق والتزامات جديدة- وبالتالي تعتبر مثل هذه الأعمال قرارات إدارية....
ومن أمثلة الأعمال المادية الصادرة من جانب الإدارة والتي تعتبر أعمالا قانونية، الأمر الصادر من الإدارة يضم التحقيقات إلى ملف خدمة المدعي، وتسوية أوضاع الموظفين وفقا لنظام معادلة الشهادات الدراسية لأن عمل الإدارة هنا كاشفا وليس منشئا لمركز قانوني، وتسليم الترخيص الصادر بممارسة نشاط معين لصاحبه بعد صدور قرار بمنحه، وقيد المحررات بسجلات مصلحة الشهر العقاري وفقا لتاريخ وساعة تقديمها، والتأشير على أوراق تعيين أحد الموظفين لأن مثل هذا التأشير لا ينشئ أثرا قانونيا.
كما أن العمل المادي قد يكو تنفيذ العمل قانوني : كأن يصدر أمرا إداري بالقبض على شخص معين عبرت فيه الإدارة عن قصدها وغرضها ونفذته باعتبارها ذات وظيفة، حيث يعتبر مثل هذا الأمر تصرف أو عمل قانوني... أما عملية إلقاء القبض على هذا الشخص تعتبر من الأفعال المادية وهي ليست إلا نتيجة للأمر الإداري بالقبض، وليست قانونيا.
كما أن العمل المادي الصادر عن الإدارة نتيجة خطأ أو إهمال دون أن تقصد ترتيب أي أثر قانوني عليه، لا يعتبر قرارا إداريا، كالحوادث التي تقع للقطارات أو السيارات، أو هدم المباني التي قد ينتج عنها أضرار تصيب بعض الأفراد في أنفسهم أو أموالهم...[3].
Ãثانيا : القرار الإداري عمل قانوني من جانب واحد
فالقرار الإداري أيا كان نوعه هو عمل قانوني يصدر بإرادة الإدارة المنفردة... وهذا العنصر هو أساس التفرقة بين القرار الإداري والعقد الإداري، ذلك أن العمل القانوني في العقد لا يظهر أثره إلا إذا تلاقت إرادة الإدارة وإرادة الفرد أو الجهة المتعاقدة معها... في حين أن العمل القانوني في القرار الإداري يظهر أثره دون تدخل من جانب الأفراد وبإرادة الإدارة وحدها رضي الأفراد أو لم يرضوا...
ويشترط لتحقيق هذا العنصر من عناصر القرار الإداري أن يكون تعبير الإدارة عن إرادتها الذاتية وليس تنفيذا لإرادة إدارة أو سلطة أخرى[4].
Ãثالثا : صدور القرار الإداري من سلطة عامة
استقر اجتهاد الفقه والقضاء الإداريين على أن القرار لا يعتبر قرارا إداريا ما لم يكن صادرا عن سلطة إدارية عامة، سواء كانت هذه السلطة مركزية أم لا مركزية، وبغض النظر عن طبيعة النشاط الذي تتولاه[5] وعليه لا يعتبر العمل أو التصرف الصادر من سلطة عامة أخرى غير إدارية كالسلطة التشريعية أو القضائية قرارا إداريا... كما لا يعتبر العمل أو التصرف الصادر عن هيئة أهلية كالهيئات الخاصة ذات النفع العام (كالمؤسسات الصحفية –والمدارس والمستشفيات الخاصة) أو أشخاص القانون الخاص (كالفنادق الخاصة ومكاتب السفريات الداخلية والخارجية ولجان الإشراف على اليانصيب الخيري).
ولا تعتبر الأعمال أو التصرفات الصادرة عن أشخاص القانون العام (التي تحل محل أشخاص القانون الخاص) وتصدر تلك الأعمال نيابة عنها قرارات إدارية لعدم توافر هذا الشرط فيها.
كما تعتبر قرارات إدارية وفقا لهذا الشرط القرارات الصادرة من جهات إدارية عامة خارج حدود سلطتها العامة، وبمقتضى صفة أخرى غير صفتها العامة...
ويقتضي هذا الشرط أن تكون السلطة الإدارية العامة التي يصدر عنها العمل أو التصرف سلطة إدارية وطنية تطبق قوانين البلاد وتستمد سلطتها منها بحيث يكون التصرف معبرا عن الإرادة الذاتية لهذه الجهة لوصفها سلطة عامة وطنية.
Ãرابعا : صدور القرار الإداري بإرادة الإدارة الملزمة بمالها من سلطة
    بمقتضى القوانين والأنظمة
يعني صدور القرار الإداري ابتداء تعبير الإدارة عن إرادتها المنفردة والملزمة سواء اتخذ هذا التعبير أو الإفصاح عن الإرادة موقفا إيجابيا، فيكون التمرار في هذه الحال قرارا صريحا، أو اتخذ التعبير موقفا سلبيا، فيكون القرار في هذا الحالة قرارا سلبيا أو ضمنيا وأيا كانت صيغة التعبير عن إرادة الإدارة إيجابا أو سلبا فإن القرارات الصريحة أو الضمنية يمكن الطعن بعدم مشروعيتها على حد سواء ويشترط أن تكون السلطة الملزمة التي عبرت الإدارة عنها بإرادتها المنفردة مستندة إلى القوانين والأنظمة التي منحتها السلطة.
Ãخامسا : أن يكون القرار الإداري نهائيا
تعتبر "نهائية القرار" من الخصائص المميزة للقرار الإداري، فالعمل أو التصرف الذي يصدر من الإدارة مستوفيا الشروط السابقة، يتعين أن يكون متخذا صفة تنفيذية دون حاجة إلى تصديق سلطة أعلى.
وقد كان هذا الشرط (نهائية القرار الإداري) محل خلاف في الفقه الإداري، إذ اعترض البعض على استخدامها واقتراح استعمال كلمة "تنفيذي" بدلا منها.
وأيا كان الخلاف حول استعمال هذا الاصطلاح فإن هناك حدا أدنى من الاتفاق على معنى نهائية القرار الإداري يتمثل في صدور القرار من جهة خولها القانون أو النظام سلطة البث في أمر ما بغير حاجة إلى تصديق سلطة أعلى.
ولا تعتبر قرارات إدارية وفقا لشرط نهائية القرار-الأعمال التحضيرية أو التمهيدية التي تسبق صدور القرار أو الأعمال اللاحقة لصدوره والتي لا تحدث بذاتها أثرا قانونيا كالتوصيات، والاقتراحات، والاستيضاحات، والآراء التي تبديها الجهات الاستشارية والتحقيقات، والمنشورات والتعليمات التي يصدرها الوزراء على أثر صدور القرارات يشرحون بها للموظفين الأحكام الجديدة التي تضمنها، وكيفية تنفيذها، شريطة ألا تتضمن قواعد جديدة[6].
وهكذا يتضح بناء على ما سبق بأن القرار الإداري هو انعكاس لاختصاص أساسي تنفرد به السلطات العمومية هذا الاختصاص الذي يمكن الإدارة بواسطته أن تعمل على خلق أوضاع قانونية جديدة أو تعديل الأوضاع القانونية القائمة أو إلغائها ومعنى ذلك أن الأمر يتعلق بإنتاج آثار قانونية تتمثل في منع الحقوق أو رفض الالتزامات.
إن هذه الخصائص التي تتوفر عليها الأعمال الانفرادية هي التي تشكل القرارات الإدارية، إذ هي التي تعتبر المعايير الأساسية التي بمقتضاها يمكن تمييز هذه القرارات عن الأعمال الإدارية الأخرى[7].
× الفرع الثاني : معايير تمييز القرار الإداري
Ãأولا : من حيث غيره من الأعمال
يقتضي تحديد ماهية القرار الإداري –بالإضافة إلى تعريفه- تمييزه عن الأعمال القانونية المختلفة التي تخضع لأنظمة قانونية خاصة بها، إذ أن مثل هذه الأعمال لا تخضع لرقابة القضاء الإداري لصدورها من غير السلطة الإدارية ويترتب على تمييز القرار الإداري عن مثل هذه الأعمال القانونية، فضلا عن خضوعها أو عدم خضوعها لرقابة القضاء الإداري تحديد الاختصاص للجهة التي تصدر عنها هذه الأعمال وبالتالي تحديد مسؤوليتها عنها.
وسنعرض في هذا الفرع للتميز بين القرار الإداري وغيره من الأعمال الإدارية إضافة إلى القرار الإداري من جهة وكل من العمل التشريعي، والعمل القضائي، وأعمال السيدة من جهة أخرى، وذلك وفقا للمعيارين الشكلي والموضوعي اللذين تفاوت الأخذ بهما في الفقه والقضاء المقارن.
أ‌-       القرار الإداري والعمل التشريعي :
تردد الفقه والقضاء الإداريين بين معيارين للتمييز بين القرار الإداري والعمل التشريعي هما المعيار الشكلي والموضوعي.
õ المعيار الشكلي : يقوم هذا المعيار على النظر إلى الجهة التي صدر عنها العمل أو التصرف بصرف النظر عن موضوع العمل ومضمونه، فالأعمال التشريعية بحسب المعيار الشكلي هي الأعمال الصادرة من البرلمان، بينما تعتبر الأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية قرارات إدارية.  
وبالرغم من بساطة هذا المعيار وسهولة تطبيقه في الواقع العملي، إلا أن هذا المعيار تعرض لبعض المأخذ التي تمثلت في أنه يعتمد أساسا على مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقضي بتحديد وظيفة لكل من السلطات الثلاث التشريعية-التنفيذية في حين أن الواقع العملي وطبيعة العمل الإداري المرنة والمتطورة تقتضي في أحيان كثيرة التداخل بين وظائف واختصاصات كل من السلطتين، وخاصة في الحالات التي تصدر فيها تشريعات عن السلطة التنفيذية. كما أن أعمال السلطة التشريعية لا تقتصر فقط على إصدار القوانين باعتبارها قواعد عامة مجردة وإنما يوجد إلى جانب القوانين ما يسمى بالأعمال البرلمانية، كالإعمال المتعلقة بالتنظيم الداخلي للبرلمان كالقرارات الخاصة بتعيين موظفي البرلمان وترقيتهم وعلاواتهم، والقرارات المتصلة برقابة البرلمان للسلطة التنفيذية سواء كانت ذات صبغة إدارية أو كانت ذات صبغة مالية أو ذات صبغة وصائية[8].
õ المعيار الموضوعي : ويقوم هذا المعيار على النظر إلى مضمون العمل أو التصرف نفسه، فإذا كان العمل أو التصرف منطويا على قواعد مكتوبة عامة ومجردة، اعتبر عملا تشريعيا بصرف النظر عن مصدر هذا العمل والشكل أو الصورة التي تجسد فيها والإجراءات التي اتبعت في إصداره، وهذا ينطبق على جميع القواعد القانونية العامة المجردة والموضوعية، سواء تلك التي يصدرها البرلمان ؟ والأنظمة على اختلاف أنواعها التي تصدر عن السلطة التنفيذية وأن اختلاف بين هذين النوعين من التشريعات هو في القيمة القانونية أو مستوى الالتزام ومصدر كل منهما وإجراءات إصدارها.
إلا أن هذا المعيار يصعب تطبيقه في الواقع العلمي للتمييز بين العمل التشريعي والقرار الإداري، وذلك لصعوبة التمييز بين الأنظمة والقوانين، وفقا لمضمونهما، إذ أن كلا منهما يتضمن قواعد عامة مكتوبة عامة ومجردة وملزمة، رغم اختلافهما في مصدر كل منهما، وهذا يعني العودة إلى المعيار الشكلي الذي يقوم أساسا على النظر إلى جهة الإصدار وإجراءاته للتمييز بين العمل التشريعي والقرار الإداري.
ب‌-  القرار الإداري والحكم القضائي :
اختلف الفقه الإداري، كما تردد القضاء الإداري في وضع معيار للتمييز بين القرار الإداري والحكم القضائي وظهر في هذا المجال معيارين : معيار شكلي، ومعيار موضوعي.
õ وفقا للمعيار الشكلي : يكون العمل أو التصرف إداريا إذا صدر عن جهة إدارية، بينما يكون العمل قضائيا متى كان صادرا عن السلطة القضائية، بصرف النظر عن مضمون هذا العمل ومحتواه، فالمعيار الشكلي يقوم على أن حكم القضائي هو الذي يصدر من جهة منحها القانون ولأية القضاء.
õ وفقا للمعيار الموضوعي : يكون العمل أو التصرف إداريا أو قضائيا بحسب محتوى العمل وفحواه وليس بحسب الجهة التي يصدر عنها هذا العمل، فالمعيار الموضوعي يقوم على أن الحكم القضائي هو الذي يصدر في خصومه لبيان حكم القانون فيها[9].
ج‌-   القرار الإداري وأعمال السيادة :
يقصد بأعمال السيادة الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة، والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من سلطة عليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج وعليه فإن أعمال الحكومة العادية التي ليس لها من الأهمية الخطيرة –ما يرفعها إلى مرتبة الأعمال المتعلقة بالسياسة العليا للدولة فلا تعد من أعمال السيادة.
Ãثانيا : من حيث الأعمال الإدارية الأخرى
من المعلوم أن الأعمال الانفرادية الصادرة عن السلطات الإدارية لا تتوفر كلها على نفس القوة الحقوقية، ومن ثم ضرورة التمييز بين نوعين من الأعمال الإدارية، فمن جهة، هناك الأعمال الانفرادية التي تأخذ صفة القرار الإداري لأنها تترجم إرادة السلطات الإدارية في التأثير على الأوضاع القانونية القائمة، سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للجماعات، ومن جهة أخرى، هناك الأعمال الانفرادية التي تشكل مجرد إجراءات داخلية، وهي الأعمال التي وإن كانت تصدر عن الإدارة بشكل انفرادي، إلا أنها تشكل نشاطات لا ترمي من ورائها ترتيب حقوق أو فرض التزامات، مما يجعلها تختلف عن القرارات الإدارية بما في الكلمة من معنى، حيث أنها تظل مفتقرة لبعض الخصائص الأساسية التي تميز هذه الأخيرة، فهذه الأعمال لا ترتب أوضاعا قانونية جديدة أي أنها حسب تعبير الفقه الإداري لا تلحق أضرارا نتيجة المس بالحقوق أو فرض التزامات.
ويمكن أن نطرح هذه الأعمال عبر مجموعتين رئيسيتين، المجموعة الأولى، وتتعلق بمجموع الإجراءات الداخلية التي وإن كانت تنعت بالقرارات الإدارية إلا أنها تظل مفتقدة لأهم الخصائص التي يقتضيها هذا النعت أما المجموعة الثانية فهي تهم الأعمال الانفرادية التي تعتبر مجرد إجراءات تنفيذية.
أ‌-       الإجراءات الداخلية التي لها صفة القرارات الإدارية :
هناك بعض الإجراءات الداخلية التي يكفها كل من الاجتهاد الفقهي والاجتهاد القضائي بكونها قرارات إدارية، لكنها لا تتمتع بنفس الوضعية القانونية التي تتمتع بها هذه الأخيرة، ويرجع ذلك أساس إلى كونها أعمال انفرادية ذات طابع مزدوج فهي من جهة، قرارات إدارية لأنها تهدف إلى التأثير على الأوضاع القانونية للأفراد أو الجماعات، لكن الاجتهاد القضائي يعتبر أن هذا التأثير هو غير ذي أهمية، ومن ثم فهو لا يستوجب خضوع هذا النوع من القرارات للطعن، ومن أمثلة على ذلك، يمكن الإشارة إلى القرارات التي تتخذها إدارات المؤسسات التعليمية في حق التلاميذ والرامية إلى تحقيق نوع من الانضباط داخل هذه المؤسسات، وذلك كفرض زي معين على التلاميذ أو منع زي معين عليهم. ومن جهة أخرى، فإن القرارات الإدارية ذات الطابع الداخلي، لها قاسم مشترك مع الإجراءات الداخلية الأخرى، إذ هي التي تهدف إلى خلق نوع من التنظيم الداخلي للإدارات المعنية، وبهذا المعنى فهي تعمل على ضبط التفاعلات الداخلية لهذه الإدارات حيث أنها تعكس على تعبير الفقيه موريس هوريو "نوعا من الحياة الداخلية للإدارة" على أساس أن الغاية منها هي تحقيق النظام الداخلي للإدارات المعنية والموقف الذي تبناه الاجتهاد القضائي من خلال مجموعة من القرارات[10].
ب‌-  الإجراءات الداخلية ذات الصبغة التنفيذية :
إن ما نقصده بالإجراءات الداخلية ذات الصبغة التنفيذية، هي مجموع الأعمال الانفرادية التي تقوم بها الإدارة ليس بهدف إحداث آثار قانونية بل يهدف تفعيل القرارات الإدارية التي من شأنها إنشاء هذه الآثار بشكل مباشر، وقد تتنوع هذه الأعمال حيث إن منها ما يظهر في شكل إجراء تمهيدي لإعداد القرارات الإدارية، وذلك مثل الرسائل التي توجهها الإدارة بخصوص مقررات تكون في طور التحضير وفيها ما يظهر في شكل إجراء لاحق، يمثل مجرد تأكيد على المقررات السابقة أو مجرد تأكيد بأحكام النصوص التشريعية أو التنظيمية، وذلك مثل المنشورات والتعليمات، ويدخل في عداد الصنف الأول الأعمال التحضيرية، أما الصنف الثاني فيهم المنشورات أو التعليمات.
vالأعمال التحضيرية :
قبل إقدامها على اتخاذ قرار ما في موضوع معين، مثل الترخيص أو المنع، فإن الإدارة تلجأ إلى القيام بمجموعة من الأعمال ذات الصبغة التحضيرية، وذلك كأن تقوم بمراسلات للمعنيين بالأمر تخبرهم بها بما سوف تقدم عليه، أو تلجأ إلى طلب استشارات من بعض الجهات الإدارية الأخرى. فما نلاحظه من هذه الأعمال هو أنها مجرد أعمال تحضيرية ليس من شأنها أن تؤثر على الأوضاع القانونية القائمة، ومن ثم فإن ما تحتوي عليه من اقتراحات أو استعدادات لا يمكن أن يكون موضوعا للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة، لأنه لا يؤثر في الأوضاع القانونية للمعنيين بالأمر وذلك بأن يلحق أضرار بمصالحهم.
إن هذا الموقف هو الذي تبناه الاجتهاد القضائي من خلال مجموعة من القرارات التي أصدرها في هذا الشأن ومن أهم هذه القرارات، نشير إلى القرار الذي اتخذته الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى*.
vالأعمال اللاحقة :
وهي الأعمال الإدارية التي لا تشكل في حد ذاتها قرارات إدارية، بل مجرد إجراءات داخلية تتخذها الإدارة لتنفيذ نشاطها، أي أنها مجموع الأعمال التابعة لنشاط أصلي تقوم به الإدارة، وبهذا المعنى فهي ليست قرارات إدارية بما في الكلمة من معنى، لأنها لا ترمي إلى التأثير بصفة مباشرة على الأوضاع القانونية القائمة، وذلك بالعمل على تغييرها أو إلغائها، ومن ثم فهي لا تخضع للمعنى بسبب الشطط في استعمال السلطة وهو ما أكده الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بمراكش في هذا الشأن*.
vالمنشورات والتعليمات :
إن المنشورات أو التعليمات هي مجموع التدابير الإدارية ذات الطابع الداخلي التي تعمل السلطات الإدارية بمقتضاه على ممارسة بعض نشاطاتها، ويتعلق الأمر بالنشاطات التي ترتبط بسير الإدارة مما يجعل طبيعتها تختلف حسب الأهداف التي اتخذت من أجلها، فقد يكون الهدف من ممارسة هذه النشاطات هو تنظيم المرافق العامة للإدارة كما قد يكون هو تفسير النصوص التشريعية أو التنظيمية التي لا يكون لها أي أثر بالنسبة للمواطنين، حيث إنها لا تهم إلا إدارة وموظفيها في إطار ما يسمى بالسلطة الرئاسية.
وانطلاقا من هذا التحديد يمكن القول بأن المنشورات أو التعليمات هي إحدى الوسائل القانونية المستعملة في ممارسة النشاط الإداري، لكن هذه الممارسة ترتبط أساسا بما هو داخلي، حيث إن المنشورات أو التعليمات ستكون تلك الاتصالات التي بواسطتها يعمل المسؤول الإداري، وعلى الخصوص الوزير، على إخبار مرؤوسيه ببعض المسائل الإدارية على المستوى الداخلي، سواء تعلق الأمر بتنفيذ المرافق العمومية أو بتفسير التشريعات أو اللوائح المتعلقة بها.
وبهذا المعنى فإن المنشورات أو التعليمات قد تتضمن مجموعة من المعطيات التي قد تأخذ شكل أوامر أو توجيهات أو شروحات أو وجهات نظر يوجهها الوزراء أو رؤساء المصالح إلى مرؤوسيهم، مما يجعلها لا تهم إلا ما يجري داخل المصالح الإدارية، ولا تهم العلاقات القائمة بين هذه الأخيرة والمواطنين.
انطلاقا مما سبق يمكن القول بأن المنشورات أو التعليمات هي أعمال انفرادية نظرا لكونها تصدر عن الإدارة بمفردها، لكنها لا تعتبر قرارات إدارية بما في الكلمة من معنى، فالمنشور والتعليم يهدفان إلى تحقيق مجموعة من الأهداف لا علاقة لها بالأوضاع القانونية القائمة، فهما لا يمنعان حقوقا ولا يفرضان واجبات، بل كل ما في الأمر أنهما يشكلان وسيلة يعمل المسؤول الإداري بواسطتها على توجيه أوامر أو توصيات أو شروحات ذات طابع داخلي إلى المصالح الخارجية التابعة له، مما ينتج عنه أن المنشور أو التعليم يعكسان أساسا تلك العلاقة القائمة بين السلطة العليا والمصالح التابعة لها، في إطار ما يسمى بالسلطة الرئاسية[11].
e   المطلب الثاني : أركان القرار الإداري
لقيام القرار الإداري وصحته من اللازم على الأقل توفر خمسة أركان أو عناصر متصلة بالسبب الاختصاص، الشكل، المحل، الغاية، حيث يعتبر عنصر الاختصاص والشكل من الأركان الخارجية، أي المتصلة بالجانب الخارجي للقرار، فيما يعد كل من السبب والمحل والغاية من الأركان الداخلية المرتبطة بجوهر القرار الإداري[12].
× الفرع الأول : الأركان الخارجية لضمان شرعية القرار الإداري
يعتبر الشكل والاختصاص الذي يتم وفقه التعبير عن إرادة الإدارة من العناصر الأساسية المتعلقة بأركان القرار الخارجية، وفيهما يتم ترجمة مشروعية القرار الخارجية.
Ãأولا : الاختصاص : La compétence
تقوم فكرة الاختصاص على أساس صدور القرار الإداري من الشخص المختص قانونيا بإصداره لا من أي شخص آخر، وذلك طبقا لمبدأ التخصص[13]. وعلى ذلك فإن القانون يعترض باختصاصات معينة لبعض الأشخاص في بعض الأماكن ولفترة محددة وهذا التحديد في صالح الإدارة والعمل الإداري، وهو أيضا لخير الأفراد، فتخصص رجل الإدارة في عمل معين يزيد من كفاءته فيما يخصص له ويحدد المسؤولية داخل الإدارة كما يساعد على توجيه المواطنين إليه لأداء أعمالهم ويجنبهم التعسفات الناشئة من تركز السلطات في أيدي القلة[14] ويمكن تحديد فكرة الاختصاص بالعناصر التالية :
أ‌-       عنصر شخصي يتعلق بتحديد أعضاء الإدارة، الذين يختصون بإصدار القرارات الإدارية المختلفة.
ب‌-  عنصر زماني يتعلق بزمان إصدار القرارات الإدارية وزمان سرياتها.
ج‌-   عنصر مكاني يتعلق بالنطاق الإقليمي الذي تنطبق فيه القرارات الإدارية.
أ‌-       العنصر الشخصي في تحديد الاختصاص :
القاعدة أن يتم تحديد الاختصاص بقانون أو بناءا على قانون، وعلى العضو الإداري المنوط به إصدار القرار الإداري أن يلتزم حدود الاختصاص المرسوم، والغالب أن ينص القانون صراحة على عضو الإدارة الذي يملك ممارسة الاختصاص، ولكنه أحيانا ينظم بعض الاختصاصات ويعهد بها إلى إدارة معينة، فيكون ممثل هذه الإدارة أو رئيسها هو المختص بإصدار القرارات التي تدخل في تلك الاختصاصات[15]. وإذا كان من الواجب على كل سلطة إدارية أن تمارس الاختصاص للمسند إليها فإن هذا المبدأ ينبغي مع ذلك أن يترك المجال أمام الضروريات العملية التي تسمح لبعض السلطات بالتخلي عن جزء من المهام الموكول إليها أمر الاضطلاع بها وذلك عن طريق التفويض مع العلم أن التفويض باعتباره استثناء من مبدأ الممارسة الشخصية للاختصاص يجب أن يكون مقررا أو كيفما كان الحل بين عام يعادل على الأقل مستوى النص الصادر بإسناد الاختصاص، والتفويض نوعان تفويض الاختصاص وتفويض الإمضاء[16].
ويتجلى تفويض الاختصاص في أن تعهد السلطة المفوضة إلى سلطة مفوض لها بضوء من اختصاصاتها. ولقد أشار الدستور المغربي إلى هذا النوع من التفويض الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تعديل قواعد الاختصاص بين جهات الإدارة. فالفصل 80 من الدستور الحالي ينص على : الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية وله حق التعيين في الوظيفة المدنية والعسكرية، كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق، كما منح الفصل 64 من نفس الدستور للوزير الأول الحق في تفويض بعض سلطاته إلى الوزراء.
وهكذا يرتبط التفويض بالوظيفة بصرف النظر عن صاحبها ويعمل به حتى في حالات الحلول محل الموظف المعين، وبهذا يكتسي تفويض الاختصاص صيغة مستمرة ويبقى معمولا به ما لم يقع سحبه مع العلم أن المفوض لا يجوز له خلال مجموع هذه المدة ممارسة الاختصاصات المفوضة، أما الأعمال التي يقوم بها المفوض له في دائرة التفويض فتبقى مرتبطة به وتحتل في تدرج الأعمال مكانة تطابق مكانة المفوض له، وتجدر الإشارة أن تفويض الاختصاص أو السلطة يجب أن يكون جزئيا ذلك أنه إذا كان كليا فهو لا يعتبر تفويضا بل تنازلا من جانب هذه السلطة، بالإضافة إلى هذا يجب أن يستمد تفويض السلطة من نص قانوني صريح. كما أن قرار التفويض ينبغي أن ينشر في الجريدة الرسمية.
أما تفويض الإمضاء أو التوقيع هو لا يغير توزيع الاختصاصات، ويقتصر دوره على مجرد توقيع المفوض إليه أو إمضاءه على بعض القرارات الداخلية في اختصاص الأصيل، ولحسابه وتحت رقابته، فهو مجرد عمل ماديا حيث يوقع المفوض إليه على وثيقة يسبق أن أعدها الأصيل وهذا التفويض مقرر ومنظم بنص عام فيما يخص السلطات الوزارية –الظهير الشريف الصادر بتاريخ 10 أبريل 1957[17] المغير بالظهير الشريف الصادر في 25 غشت 1958[18].
ويتميز تفويض التوقيع بالخصائص التالية :
õ يجب أن ينطلق من قاعدة قانونية.
õ لا يسمح للسلطة المفوض لها بالتوقيع على القرارات المسندة إليها بحكم التفويض.
õ وبما أن هذا التفويض مستمد من شخص فإن العمل به ينتهي تلقائيا متى تغير شخص المفوض أو المفوض له.
وأخيرا يعتبر تفويض الإمضاء محدودا في مداه حيث أنه يجوز للسلطة أن تفوض إمضاءها بالنسبة لجميع القرارات المتعلقة بالمصالح الراجعة لاختصاصها باستثناء المراسيم والقرارات التنظيمية.
وتجدر الإشارة أن الاختصاص يعتبر من الشروط الجوهرية لصحة القرارات وإذا تخالف هذا الشرط يعتبر القرار باطلا.
وفي جميع الأحوال فإن عيب عدم الاختصاص يعتبر من العيوب المتعلقة بالنظام العام لكل ما يترتب على هذا التعلق من نتائج، وبخاصة من حيث جواز الدفع به في أية مرحلة كانت عليه الدعوى، أو من حيث جواز إتارته تلقائيا من طرف المحكمة[19].
ب‌-  العنصر الزمني في تحديد الاختصاص :
مبدئيا لا يمكن للسلطة الإدارية أن تتخذ قرار الإخلال المدة التي تزاول فيها عملها الشيء الذي يمنع معه على سبيل المثال اتخاذ قرارات سابقة لأوانها أو قرارات ذات أثر رجعي أو خلال انتهاء مدة مهامها، لكنه في بعض المجالات يعتبر انقضاء المدة القانونية غير مؤدي لزوال الاختصاص بصفة نهائية. وهذا ما يمكن حدوثه أثناء استقالة الحكومة أو إقالتها بحيث تظل هذه الأخيرة تزاول صلاحيتها ومهامها العادية والمستعجلة ريثما تتألف حكومة جديدة تستند إليها مأمورية تسيير شؤون الدولة[20].
فلقد أباح الدستور المغربي بأنه في استطاعة البرلمان أن يأذن للحكومة قانون تفويض ممارسة بعض الصلاحيات في مدة تغيبه، فإذا انتهت المدة ورجع البرلمان لاستئناف مهامه فقدت الحكومة صلاحيتها المفوضة لها وأصبحت كل مخالفة لذلك تشكل عملا غير شرعي[21].
كما يمكن أن تحدد قاعدة الصلاحية الزمنية بالنسبة للعلاقات المتواجدة بين سلطة الوصاية والمجالس فإذا انتهت هذه المدة فإن كل اعتراض من طرفه يعد باطلا[22].
ج‌-    العنصر المكاني في تحديد الاختصاص :
يعتبر مفهوم هذا الاختصاص واضحا للغاية حيث أن السلطات الإدارية تمارس اختصاصاتها في إطار جهوي أو ترابي معين، وهكذا نجد أن السلطات الحكومية تتمتع باختصاص على الصعيد الوطني بينما نجد أخرى كالعمال ورؤساء المصالح الخارجية تمارس اختصاصها في دائرة محدودة.
ويترتب عن تجاوز السلطة الإدارية، الرقعة الترابية المحددة لها بحكم القانون لممارسة اختصاصاتها بطلان قراراتها[23].
وفي هذا الإطار قضى المجلس الأعلى بإلغاء عدة قرارات لكونها صادرة عن جهة غير مختصة مكانيا ومن ذلك مثلا : قرار محمد بن عبد السلام الحاج الصديق ضد نائب الوزير الأول حيث قضى بإلغاء قرار كامل إقليم تازة لأنه لا يوجد أي نص يخول له اتخاذ قرار الأداء لمحصل بلدي[24].
وتبعا لذلك يمكن تعريف الاختصاص بأنه "السلطة أو الصلاحية التي يتمتع بها مصدر القرار في إصدار قراره في الحدود الموضوعية والمكانية والزمانية التي بينها القانون".
ومخالفة قاعدة الاختصاص في إصدار القرار الإداري تشكل عيبا مستقلا وقائما بذاته. يحق بمقتضاه للسلطة القضائية المختصة إثارته والبث فيه من تلقاء نفسها ولو لم يثره الخصوم لأن عيب الاختصاص هو العيب الوحيد المتصل بالنظام العام[25].
Ãثانيا : الشكل La Forme
إذا كان القرار الإداري هو تعبير عن إرادة الإدارة الملزمة بقصد إحداث أثر قانوني معين. فإن ذلك يجب أن يتم بالشكل الذي يتطلبه القانون. وتحدد الشكليات بالنصوص التشريعية والتنظيمية ويساهم القضاء بدوره في وضعها مستلزما المبادئ العامة للقانون[26].
وتتمتع الإدارة بسلطة تقديرية في اختيار الشكل المناسب لقراراتها الإدارية فتكون مكتوبة أو شفوية. ماعدا في الحالات التي ينص فيها القانون على ضرورة إصدار بعض أنواع القرارات بشكل معين. كوجوب تعليل القرارات مثلا : قرارات توقيف أو حل مجالس الجماعات المحلية أو استشارة هيئة معينة قبل اتخاذ القرار[27]. كما هو الشأن بالنسبة لبعض العقوبات الإدارية في حق الموظفين والتي لا يمكن اتخاذها من طرف الدولة إلا بعد استشارة اللجنة التأديبية[28]. وفي مثل هذه الأحوال فإن إغفال الشكل الذي يتطلبه القانون يؤدي إلى وصم القرار يعيب الشكل وإمكان الطعن فيه وإبطاله بدعوى الشطط في استعمال السلطة وقد طبقت الغرفة الإدارة هذا المبدأ بمناسبة فصلها في مجموعة من القضايا التي تهم تأديب الموظفين العموميين، وقد قرر القانون بنصوص صريحة حماية الأفراد افتراض صدور قرار من الإدارة بالرفض إذ طلب منها المواطنون شيئا وامتنعت عن الرد مدة معينة (60 يوم كقاعدة)[29] وعلى العكس فقد يعتبر القانون سكوت الإدارة بمثابة قبول وموافقة لما وجه إليها ومن هذا القبيل حالات المصادقة على بعض القرارات الجماعية[30].

× الفرع الثاني : الأركان الداخلية لضمان شرعية القرار الإداري
تتمثل الأركان الداخلية للقرار الإداري في السبب والمحل والغاية، وهي عناصر تظهر فيها السلطة التقديرية على خلاف الأركان الخارجية التي تكون في الغالب مقيدة ولا مجال للتقدير فيها.
Ãأولا : السبب Le Motif
يعرف الدكتور سليمان محمد الطماوي السبب بأنه : "حالة واقعية أو قانونية بعيدة عن رجل الإدارة ومستقلة عن إدارته، تتم فتوحي له بأنه يستطيع أن يتدخل وأن يتخذ قرارا ما"[31].
هذه الحالة الواقعية هي التي تجبر الإدارة عن اتخاذ قرارها والسبب يأخذ أحد المظهرين التاليين :
¯ إما أن يكون عملا ماديا، مثلا فيضان أو زلزال مهدد للنظام العام مما يستوجب تدخل الإدارة متخذة الإجراءات الضرورية لمنع انتشار الأمراض المعدية في حالة الكوارث الطبيعية وطبقا للسلطة التقديرية الواسعة الإدارة، فإنها حرة في اعتمادها الطريقة التي تراها مناسبة وملائمة لمواجهة العمل المادي.
¯ وإما أن يكون عملا قانونيا مثل تأديب موظف عمومي تأسيسا على سلطة الإدارة التقديرية الواسعة في تحديد ما إذا كان الفصل الصادر عن الموظف اختلال بالقواعد الوظيفية من عدمه بالاستناد مثلا على المقتضيات القانونية لظهير 24 فبراير 1958 الخاص بالوظيفة العمومية[32].
واشتراط السبب لكل عمل إداري قاعدة منطقية. وتمثل قيدا مهما على الإدارة وضمانة مهمة لحماية الأفراد من تعسفات الإدارة، ذلك أنه إذا عملت الإدارة على إصدار قرار إداري غيره مؤسس على سبب قانوني أو مادي. كان تصرفها خاطئا في تطبيق القانون على الوقائع بعيب السبب وهو عمل غير مشروع يمكن الطعن فيه بدعوى الإلغاء[33]. وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بفاس والتي أكدت من خلاله على أن السبب الذي تعتمد عليه في تعليلها لقرارها يجب أن يكون سببا صحيحا ومعقولا.
إن وقائع هذا الحكم تتلخص في كون التلميذة جليلة المرابط قد تقدمت بدعوى أمام المحكمة بفاس تلتمس فيها إلغاء القرار الإداري القاضي يمنع إعادة تسجيلها بثانوية محمد القري بالبهايل بفاس، حيث ارتكز موقف الإدارة المعنية على أن اتخاذها للقرار المطعون فيه قد كانت وراءه أسباب أملتها اعتبارات الأخلاق العامة السائدة داخل المؤسسات التي يتواجد فيها خاصة، الأطفال المراهقون... علاوة على اعتراض زوج التلميذة للحيلولة دون هذا التسجيل، وقد كان موقف المحكمة من هذه الأسباب موقفا مغايرا، حيث صرحت بأن زوج التلميذة ليس من شأنه أن يسقط حقها في الانتفاع من خدمات مرفق التعليم الثانوي، كما أن تواجدها بهذا المرفق لا ينطوي على أي تأثير سلبي في الأخلاق العامة التي تضرعت بها الإدارة. مما يجعل رفض إعادة تسجيل الطاعنة فيه مساس بمبدأ المساواة في التعليم وغير مرتكز على سبب حقيقي صحيح ويتسم بالشطط في استعمال السلطة بمقتضى إلغاءه[34].
Ãثانيا : المحل L’Objet
محل القرار الإداري هو موضوع القرار وهو الأثر القانوني الذي يترتب عليه حالا ومباشرة ويكون ذلك بالتغيير في المركز القانوني، سواء بالإنشاء أو بالتعديل أو الإلغاء[35].
¯ بالإنشاء : كصدور قرار إداري يقضي بتعيين موظف في وظيفة معينة، فمحل ذلك القرار هو وضع ذلك الموظف في الجهة التي ثم تعيينه فيها أو تخويله ممارسة مجموعة معينة من الاختصاص يحددها القانون.
¯ بالتعديل : كصدور قرار إداري يقضي بترقية موظف في وظيفة معينة، فمحل ذلك القرار هو نقل ذلك الموظف من وظيفة معينة على درجة معينة إلى وظيفة أخرى على درجة أقل.
¯ بالإلغاء : كصدور قرار يقضي بفصل موظف من وظيفة معينة، فمحل ذلك القرار هو إلغاء العلاقة القانونية القائمة بين ذلك الموظف وبين جهة الإدارة، وكصدور قرار إداري يقضي بإغلاق أحد المحلات التجارية المقلقة للراحة العامة، فمحل ذلك القرار هو توقف نشاط ذلك المحل سواء بصفة دائمة أو مؤقتة حسب ما ينص عليه القرار[36].
وهكذا فمحل القرار هو جوهره بل أن الأركان الأخرى تعد فقط أركانا مساعدة أو معاونة لكي يخرج المحل إلى حيز الوجود في صورته القانونية السليمة[37].
ويشترط في المحل أن يكون متعينا أي يكون المحل قابلا للتعيين مادام قد تضمن كافة العناصر اللازمة لتحديده كما يشترط أن يكون المحل ممكنا حيث ينبغي أن يكون تحقيق المحل في مقدور الإدارة، كما يشترط أن يكون الأثر القانوني للقرار الإداري جائزا وقانونيا بحيث أن يحترم التدرج العام للقواعد القانونية من حيث سموها الواحدة تلو الأخرى فإذا صدر قرار إداري لا يراعي تلك القواعد اعتبر باطلا أي أن المحل لا يقابله شرط[38] على أن غير مخالفة القانون في القرار الإداري لا يترتب عليه في غالب الأحيان انعدام القرار بل عدم مشروعيته كما لو اشترط القانون شروط معينة في العامل لم تكن متوفرة في من صدر القرار بتعينه : ففي هذه الحالة يكون القرار معيبا في محله ولكنه لا يكون منعدما، فمشروعية المحل شرط من شروط صحة القرار أما وجود المحل فهو ركن من أركان القرار[39].

Ãثالثا : الغاية Le But
ويقصد بالغاية الهدف النهائي الذي يستهدف مصدر القرار الإداري تحقيقه من إصدار القرار[40]. وعليه وعلى سبيل المثال تكون غاية القرار الإداري التي تتخذها السلطات المشرفة على المرافق العامة إشباع الحاجيات، وتقديم خدمات تحقيقا للمصلحة العامة، فإذا استهدفت تحقيق ذاتي، أو مصلحة خاصة يصبح عملها اعتداءا ماديا قابلا للإلغاء أمام القضاء الإداري.
ومفهوم المصلحة العامة لما كان غير محدد فإن المشرع يتدخل ليحدد للعاملين بالمرافق العامة الغاية التي عليهم تحقيقها بذاتها، فالبحث عن غيرها يؤدي إلى بطلان قراراتهم بموجب إساءة استعمال السلطة بمقتضى ما يسمى بمبدأ تخصيص الأهداف والغايات، والأصل أن تتمتع الأعمال الإدارية بحجة المشروعية والصحة إذ يفترض فيها جميعها السعي وراء تحقيق المصلحة العامة فكل عمل إداري يهدف إلى تحقيق غاية معينة والقرار الإداري ما هو إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية التي تكون دائما مصلحة عامة أو منفعة عامة[41].
وخلاصة القول فإن توافر القرار الإداري على كل الأركان السابق ذكرها تضفى عليها صبغة الشرعية وتجعله قابلا للنفاذ ومحصنا من كل أشكال الطعن الإداري أو القضائي[42].


[1]- الدكتور نواف كنعان، القانون الإداري، الكتاب الثاني، كلية الحقوق، الأردن، ص : 237.
[2]- الدكتور محمد مرغيني خيري، الوجيز في القانون الإداري المغربي، الجزء الثاني، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، ص : 244.
[3]- الدكتور نواف كنعان، القانون الإداري، مرجع سابق، ص : 231.
[4]- دة. مليكة الصروخ، القانون الإداري –دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة مع آخر المستجدات 1998 مطبعة النجاح البيضاء، ص : 385.
[5]- سواء تعلق الأمر بالنشاط الإداري أو غيره من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المهنية، ذلك أن هذه المرافق تتمتع بقدر من امتيازات السلطة العامة والتي تخولها الحق في إصدار قرارات إدارية بشأن أمور معينة.
[6]- أحمد السنيهجي، الوجيز في القانون المغربي والمقارن، الطبعة الثانية، 1998 مكناس، ص : 224.
[7]- د. محمد كرامي، الطبعة الأولى 2000، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص : 206.
[8]- نواف كنعان، القانون الإداري، مرجع سابق، ص : 244.
[9]- د. رضوان بوجمعة، المقتضى في القانون الإداري المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999، ص : 182.
[10]- د. سليمان محمد الطماوي، النظرية العامة للقرارات الإدارية دراسة مقارنة، الطبعة الثالثة، دار الفقه القاهرة، مصر 1966، ص : 77-78.
*- قرار 19-6-1967، الشركة الكهربائية المغربية ضد وزير الأشغال العمومية ووزير المالية قرارات المجلس الأعلى، الغرفة الإدارية 1966-1970، ص : 99.
*- المحكمة الإدارية بمراكش، مول العرض ضد وزير التربية الوطنية حكم عدد 44 بتاريخ 16-07-1975، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 16 يوليوز شتنبر 1996، ص : 112.
[11]- نواف كنعان، القانون الإداري، مرجع سابق، ص : 248-249-250.
[12]- مليكة الصروخ، م.س، ص : 387.
[13]- د. محمد مرغني خيري، الوجيز في القانون الإداري المغربي، الجزء الثاني، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، ص : 256.
[14]- رضوان بوجمعة، المقتضى في القانون الإداري المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الدار البيضاء 1999، ص : 182.
[15]- محمد حلمي، موجز مبادئ القانون الإداري، الطبعة الأولى، ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي 1978.
[16]- الحاج الشكرة، القانون الإداري، الطبعة الأولى، دار القلم للطباعة والتوزيع، ص :
[17]- منشور بالجريدة الرسمية، لسنة 1957، تحت عدد 2322، ص: 994.
[18]- منشور بالجريدة الرسمية، لسنة 1958، تحت عدد 2393، ص: 2078.
[19]- د. محمد مرغلي خيري، مرجع سابق، ص : 90.
[20]- د. رضوان بوجمعة، مرجع سابق، ص : 180.
[21]- ينص الفصل 45 من الدستور المراجع 13 سبتمبر 1996 على "وللقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود الغاية معينة بمقتضاها مراسيم تدابير تختص القانون عادة باتخاذها ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها، غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل مجلس البرلمان أو أحدهما.
[22]- تنص المادة 72 من قانونه 00-78 المتعلق بالميثاق الجماعي في ظرف 15 يوما الموالية لاختتام الدورة نسخة من جميع القرارات غير المقررات المشار إليها في المادة 69 أعلاه إلى السلطة الإدارية المحلية المختصة وصلا بذلك. تكون المقررات قابلة لتنفيذ ما عدا إذا كان هناك تعرض معلل من الوالي أو العامل يبلغ خلال 3 أيام الموالي لتاريخ الوصل في حالتي البطلان أو قابلية البطلان المقررتين في المادتين 74 و75 بعده.
[23]- د. الحاج الشكرة، م.س. ص : 92.
[24]- القرار عدد 41 بتاريخ 18-15-1961 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى لسنة 1960-1961 الغرفة الإدارية، ص : 66.
[25]- د.ة مليكة الصروخ، م.س. ص : 388.
[26]- د. عبد الله الإدريسي، م.س. ص : 245-246.
[27]- الفصل 63 من قانون الوظيفة العمومية بتاريخ 24 فبراير 1958.
[28]- الفصل 66-77 من قانون الوظيفة العمومية الذي سبق ذكره.
[29]- انظر الفصل 360، من قانون المسطرة المدنية المغربي الفقرة الثالثة.
[30]- انظر المادة 73 من قانون 00-78 المتعلق بالميثاق الجماعي الجريدة الرسمية، عدد 5058، بتاريخ 21 نوفمبر 2002، ص : 3480.
[31]- سليمان محمد الطماوي، النظرية العامة للقرارات الإدارية دراسة مقارنة، الطبعة الثالثة، دار الفقه القاهرة، مصر 1966.
[32]- محمد يحيى، المغرب الإداري، الطبعة الثالثة، 2004، مطبعة ووراقة إسبارطيل طنجة، ص : 366.
[33]- الحاج الشكرة، مرجع سابق، ص : 94.
[34]- المحكمة الإدارية بفاس، المرابط جليلة ضد وزير التربية الوطنية، حكم عدد 265، 96 بتاريخ 17-07-1996 المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 22 يناير – مارس 1998، ص : 119.
[35]- د. محمد أنوار حمادة، القرارات الإدارية ورقابة القضاء، دار الفكر الجامعي الإسكندرية 2003، ص : 62.
[36]- د.ة مليكة الصروخ، مرجع سابق، ص : 391.
[37]- د. محمد مرغني خيري، مرجع سابق، ص : 250.
[38]- د. محمد يحيا، م.س. ص : 373.
[39]- د. الحاج شكرة، م.س. ص: 96.
[40]- د.ة. مليكة الصروخ، م.س. ص : 392.
[41]- د. محمد يحيا، م.س. ص : 273-274.
[42]- د. حسين سيمو، السلطة التقديرية للإدارة ورقابة القضاء، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية العدد 13، سنة 1995.


المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق