مراقبة شرط المصلحة العامة لنزع الملكية في الاجتهاد القضائي الفرنسي

 

إن مفهوم المصلحة العامة عرف تغييرا مواكبا لتطور المجتمعات، وبالتالي ينبغي نرصد هذا التغيير في  بعض القوانين وموقف القضائي خاصة الفرنسي باعتباره الرائد في هذا الميدان و مهد القانون الإداري، وصاحب السبق في هذا الميدان، ونقتفي أثر ذلك في المرحلة التقليدية ( المطلب الأول )، وفي المرحلة الحديثة ( المطلب الثاني ). 

المطلب الأول: مفهوم المصلحة العامة في المرحلة التقليدية.

مر مفهوم المصلحة العامة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي أثناء مراقبته لتوفر هذا الشرط الذي أشرنا في ما سبق أنه الوحيد الذي يبرر نزع الملكية، في ثلاثة مراحل:[1]

المرحلة 1:  المصلحة العامة لا تتوفر إلا في حالات معينة.

في هذه المرحلة كان القضاء الإداري الفرنسي يقر بقيام المصلحة العامة المبررة لنزع الملكية للقيام بأشغال عامة؛ كإقامة الطرق أو الميادين العامة، فهذه الأشغال هي التي كانت وحدها تبرر نزع الملكية وامتدت هذه المرحل من تاريخ إنشاء مجلس الدولة الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي، وكانت حالات نزع الملكية محدودة للغاية، خاصة وأنه في بداية الأمر كان القضاء يشترط أن يكون نزع الملكية للضرورة العامة Nécessitée publique   ولكن القضاء الفرنسي ـ مجاريا في ذلك المشرع ـ حل فكرة "المصلحة العامة" محل "الضرورة العامة" حتى تتمكن الإدارة من المضي قدما في تنفيذ الأعمال اللازمة لتحقيق النفع العام في شتى المجالات: الاجتماعية والصحية والاقتصادية بل حتى الجمالية.

المرحلة 2:  فكرة المرفق العام.

بعد هذه المرحلة، توسع المشرع الفرنسي في حالات نزع الملكية من أجل تحقيق المنفعة العامة وذلك بالربط بين فكرة المرفق العام والمصلحة العامة، فقد أجاز نزع الملكية من أجل حماية الصحة العامة، أو تحقيق أهداف اجتماعية كتوفير السكن لذوي الدخل المحدود أو رعاية الشباب بإقامة ميادين رياضية، بل وأجاز نزع الملكية من أجل تجميل المدن؛ وحتى يتمكن القضاء الإداري الفرنسي ( مجلس الدولة ) من مجاراة المشرع في هذا الصدد، فقد اتخذ اتجاها جديدا مؤداه الربط بين المرفق العام والمصلحة العامة وتفصيل ذلك: أن الإدارة إذ تزاول أنشطتها اليومية عن طريق تقديم خدمات للجمهور محققة بذلك مصلحة عامة، كتوصيل المياه الجارية للمنازل والكهرباء، وخدمات النقل العام، فإنها تقوم بتقديم هذه الخدمات عن طريق المرفق العام، لذلك يكون من الطبيعي أن يصبح هذا المرفق المعيار الذي تتحدد به مشروعية أنشطة الإدارة بمعناها الواسع ( الهيئات المركزية، والهيئات اللامركزية )، لذلك فإن الأنشطة التي تقوم بها المرافق العامة كانت تبرر استخدام هذه الوسيلة الاستثنائية التي يعرفها القانون العام. ( وجود مبرر لنزع الملكية في كل مرة يتطلب الأمر فيها تنفيذ أنشطة المرفق العام وقيامه بأداء وظيفته).

لكن مع اتساع تدخل الدولة في الحياة اليومية ولجوءها إلى الأخذ بأساليب أخرى غير المرفق العام لتحقيق المنفعة العامة، لم يعد معيار المرفق العام صالحا في هذا المجال فاتجه القضاء الفرنسي للبحث عن معيار جديد.

 المرحلة 3: فكرة المصلحة العامة.

        في هذه المرحلة عرف القضاء الإداري الفرنسي تحولا، حيث يشترط أن يتوفر قرار نزع الملكية على مصلحة عامة يستند إليها. ففي قضية Cambiero، كتب مفوض الحكومة يقول: "ليس من الضروري لتبرير نزع الملكية، التمسك بنظرية المرفق العام، يكفي توافر المصلحة العامة. لذلك فإن القرار الصادر بنزع الملكية في القضية المذكورة، من أجل إقامة أحد دور الشباب، نظرا لما يحققه من مصلحة عامة، يتوافر بالنسبة له شرط المنفعة العامة"و بذلك، لم يعد من الضروري أن يستند قرار نزع الملكية على نص صريح يقرر أن الهدف الذي يسعى القرار إلى تحقيقه شرط المنفعة العامة؛ فهذا الشرط يعتبر متوافرا متى كان القصد من وراء القرار تحقيق المصلحة العامة.

 وينبني على ذلك أنه متى توافرت فكرة تحقيق المصلحة العامة لأحد المشروعات فإن هذا يضفي على القرار الصادر بنزع الملكية من اجل إقامة هذا المشروع مشروعية تمتد لتشمل أيضا ملحقات المشروع، بل أكثر من ذلك، فإن مجلس الدولة ذهب إلى حد اعتماده فكرة "المصلحة العامة غير المباشرة" وكان ذلك بمناسبة قضية "فندق وكازينو مدينة نيس" حيث قرر أن إزالة هذا الفندق القديم سيسمح بتخطيط المنطقة على نحو يتيح، بالإضافة إلى الفندق الجديد والكازينو، إقامة دار بلدية جديدة، وبذلك يتوافر في قرار نزع الملكية شرط المنفعة العامة بطريقة غير مباشرة." 

 وهذا الاتجاه الذي أخذ به القضاء الفرنسي في هذه المرحلة يعتبر تمهيدا لتحول هائل في مرحلة الاتجاه الحديث.  

المطلب الثاني: مفهوم المصلحة العامة في مرحلة الاتجاه الحديث ونظرية الموازنة.

بدأ الاتجاه الحديث للقضاء الإداري الفرنسي بتاريخ 28/05/71، إثر قرار مجلس الدولة الشهير المتعلق بقضية "المدنية الشرقية الجديدة" والتي كان من المقرر إقامتها شرق مدينة "ليل" الفرنسية، ومن خلال هذا القرار والتعليقات الفقهية بشأنه يتضح أن مجلس الدولة الفرنسي سار في اتجاه جديد يوسع من سلطات القاضي في الرقابة على قرارات نزع الملكية، بحيث لا يكتفي القاضي بالنظر إلى المنفعة العامة التي يحققها قرار نزع الملكية نظرة مجردة، بل يجب عليه أن يتجاوز هذا الحد وأن ينظر إلى مدى ما يحققه القرار الصادر بنزع الملكية من "فائدة" تحقق أكبر قدر من "المصلحة العامة "وذلك عن طريق "الموازنة" بين "الفائدة" التي يحققها المشروع والمصالح التي يمسها، أي أن ينظر إلى فكرة "المنفعة العامة" بشكل أعم وأوسع، نظرة موضوعية تسمح بتقييم كافة المصالح الموضوعية في الميزان والتي يمسها القرار القاضي بنزع الملكية ( نظرية الموازنة )،  وتطبيقا لهذا الاتجاه، سار مجلس الدولة الفرنسي في هذا المنحى وأصدر مقررا مفاده : أن أي مشروع لا يمكن أن تتوافر فيه صفة المنفعة العامة، إلا إذا كانت الأضرار التي يلحقها بالملكية الخاصة، والتكلفة المالية التي يقتضيها، والآثار الاجتماعية الناجمة عنه، متوازنة مع ما ينشأ عنه من منفعة.

إن هذا الموقف يعتبر مسلكا جديدا، مقارنة مع الرقابة التقليدية على قرارات إعلان المنفعة العامة التي كانت لا تتجاوز الرقابة المجردة، غير أن هذا الاستحداث في مجال الرقابة وعلى الرغم من أهميته على مستوى حماية حقوق الأفراد من تعسفات الإدارة المحتملة، وبالرغم من الإشادة والترحاب اللذان قوبل بهما من طرف غالبية الفقه، فإن جانبا آخر منه لاحظ على أنه من شأن هذا التوسيع من سلطات رقابة القاضي أن تمتد إلى جانب الملاءمة، وفي ذلك مساس بمبدأ الفصل بين السلطات؛ ذلك أن تطبيق نظرية الموازنة قد يؤدي بالقاضي الإداري إلى القيام بتقديرات فنية صعبة يستحيل عليه أحيانا القيام بها بالنظر إلى وسائل التحقيق التي لا توجد بين يديه.

ورغم هذا النقد فإن الجانب  الأكبر من الفقه يذهب إلى أن الرقابة التي استحدثها مجلس الدولة الفرنسي في قضية " المدينة الشرقية الجديدة" رغم ما يحمله في طياته من تدخل القاضي الإداري لبحث الملاءمة في محل القرار فإنها لا تخرج عن إطار رقابة الشرعية، لأن هذا البحث ليس سوى وسيلة للتأكد من مشروعية قرار إعلان المنفعة العامة بمطابقته لمبدأ الموازنة باعتباره من المبادئ القانونية العامة التي تلتزم الإدارة باحترامها وإلا بات قرارها المخالف لهذه المبادئ غير مشروع؛ والقاضي الإداري لا يلغي هنا القرار لعدم الملاءمة وإنما لعدم المشروعية، وبالتالي لا يحل محل الإدارة في اتخاذ القرار الملائم في هذا الشأن وإنما يعيد الأمر إليها لإعادة التقدير بصورة أخرى.

ويبقى مؤكدا بعد كل هذا أن هذا المبدأ يزود القضاء الإداري بسلاح فعال لحماية المشروعية ضد تعسف الإدارة ليس فقط على مستوى حماية الملكية الخاصة، وإنما أيضا على مستوى المصالح الاقتصادية، ومن ثم فإن نظرية الموازنة بما تضفيه من ضوابط على ممارسة السلطة التقديرية للإدارة في مجال نزع الملكية على نحو يجعلها سلطة مقيدة تخضع في ممارستها لشروط واضحة، فإنها تقدم ضمانا من جهة للأفراد ضد تجاوزات السلطة التقديرية للإدارة، ومن جهة أخرى فإن العقارات المنزوعة ملكيتها لتكوين الرصيد العقاري للدولة يجب تذهب لتحقيق المصلحة العامة وذلك بحسن استعمالها

 


[1]  رشيد بوسكري، مستشار بمحكمة الاستئناف بوارزازات، شرط المنفعة العامة في مسطرة نزع الملكية بين سلطة القضاء و إكراهات الواقع، المكتبة القانونية العربية، الموقع الالكتروني: https://www.bibliotdroit.com، تاريخ الزيارة 29/03/2020، على الساعة الواحدة زوالا.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق