مفهوم القانون الدولي العام

 

 مفهوم القانون الدولي العام

يعتبر القانون الدولي ، حسب "إيـمانويل تورم-جوانيت"، أداة من أدوات السياسة الدولية،  وهو مـجموعة من القواعد والـخطابات والتقنيات التي يستعملها الأشخاص والفاعلون الدوليون  لتنظيم علاقاتهم وتـحقيق عدة غايات اجتماعية. ويعتبر القانون الدولي أيضا منتوجا ثقافيا وتاريـخيا،  وحصيلة تطور مستمر امتد لعدة قرون مكن من تشكله كما هو عليه اليوم. وهو أيضا سيرورة أساسية لضبط وتأطير الصراعات الدولية، ولغة مشتركة ضرورية، وتقنية جوهرية في خدمة الدول وكل  الفاعلين في الـمجتمع الدولي، كما أنه  قانون يعد بالسلم والأمن الدوليين. وله، لـهذه الأسباب، قوة  جذب كبيرة. ورغم ذلك، يندرج القانون الدولي منذ نشأته الـمعاصرة في إطار مـجتمع دولي سـمته  العميقة اللا مساواة التي تغذي الصراعات أكثر من إخـمادها. وبعيدا عن اعتبار القانون الدولي مـجرد  تقنية قانونية بسيطة ومحايدة كان دائما ولايزال انعكاسا دوليا لقيم ومصالح الفاعلين المهيمينين على الـمجتمع الدولي، كما أنه يستعمل أيضا، بشكل مفارق، من قبل الـحركات الـمعارضة لـهذا  النظام الدولي الـمهيمن. ولـهذا السبب يعتبر القانون الدولي مزدوج الاستعمال في جوهره، أي أنه أداة  للهيمنة وأداة للتحرر منها في نفس الوقت بالنسبة للأشخاص والفاعلون الذين يستعملونه. لذلك  يعتبر صالحا للأقوياء وحصنا للضعفاء

وقد عرف القانون الدولي تحولا عميقا منذ ،1945 وقد أدى تطور ه على عدة مستويات  إىل إرباك قوي للتناغم الذي كان سـمة القانون الدولي الكلاسيكي. ونلاحظ اليوم تعددا معاصرا  للـمصادر والفاعلين ومستعملي القانون الدولي، وتراجعا مؤكدا لدور الدولة ذات السيادة والتي كانت  دائما أساسا جوهريا لنشأة هذا القانون. ويعتبر القانون الدولي اليوم قانون الـمجتمع الدولي الذي  تشكل بعد الـحرب الـعالـمية الثانية، والذي أصبح الآن مـجتمع ما بعد الـحرب الباردة وما بعد  الاستعمار. وهذه العناصر هي سـمات جوهرية للقانون الدولي اليوم

وضمن هذا الـتحليل، يعتبر الوصف الكلاسيكي للقانون الدولي باعتباره قانونا يـحدد قواعد تـجاور وتعايش الدول ذات السيادة غير منسجم مع القانون الدولي الـمعاصر  فسيادة الدول والـمؤسسات الدولية والأفراد والفاعلون الـخواص أصبحوا شيئا فشيئا أكثر تدخلا في الواقع الدولي،  والعالـم يعرف عـولـمة عميقة. والقانون الدولي اليوم يعبر بعمق عن هذه التحولات من خلال تطوره  وظهور مجالات جديدة على أنقاض تقسيمات القانون الدولي الكلاسيكية

ضمن هذه الـمعطيات مـجتمعة يعتبر القانون الدولي في طور التـطور الـمستمر، بـحيث تظهر  حدود تقديـمه على الطريقة الكلاسيكية. وتطوره لا يـتم دون مشاكل، والتي يـجب أخذها في عني  الاعتبار. وليس من الـمفارقة رؤية أن هذا القانون يعاد تقييمه ويتضخم بشكل لا مثيل له، والـحاجة  غير الـمسبوقة للقانون الدولي والتي يعكسها تطوره، يؤدي إلى فقدان هذا القانون لـمميزاته وقدرته على الاستجابة  لتطلعات الذين يقومون بصياغته والذين يستعملونه على السواء.

  أ- مفهوم القانون الدولي

يعرف القانون الدولي بأنه القانون الـمطبق على الـمجتمع الدولي. ويستلزم تعريف من هذا  النوع وجود مـجتمع دولي مـختلف ومتميز عن الـمجتمع الوطني أو الـمجتمع الداخلي أو الـمجتمع  الدولتي. ويـحدد في نفس الوقت مجالات تطبيق كل من القانون الدولي والقانون الوطني أو الداخلي،  ويؤكد أيضا على الرابط السوسيولوجي الضروري بين القانون والـمجتمع. فكل مـجتمع في حاجة إلى  قانون وكل قانون هو نتاج اجتماعي

وتعتبر تسمية القانون الدولي هي الأكثر استعمالا اليوم لوصف قانون الـمجتمع الدولي. وهي  ترجمة لعبارة "Law International "والتي استعملها لأول مرة "جرمي بنتام" في كتابه "مدخل  إلى مبادئ الأخلاق والتشريع" سنة ،1780 في مقابل القانون الوطني "Law National".

 - التمييز بين القانون الدولي العام والقانون الدولي الـخاص

                                                                                          أضيف نعث "العام" للقانون الدولي في الترجمة الفرنسية، في سويسرا، سنة 1802 لكتاب  "جرمي بنتام" سالف الذكر للمصطلح الأصلي "القانون الدولي".

 

وظهرت لاحقا عبارة "القانون الدولي الـخاص" سنة 1843 في فرنسا من قبل "فوليكسالكاتب الأول لـ "موسوعة القانون الدولي الـخاص". وقد ظهر في هذا التاريخ التمييز الكلاسيكي بين  القانون الدولي العام والقانون الدولي الـخاص

ويرتكز هذا التمييز على اختلاف الـموضوع. فبينما ينظم القانون الدولي العام الروابط بين  الدول، ينظم القانون الدولي الـخاص العلاقات القائمة بين الـخواص، سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو  معنويين

وتتميز الروابط الأولى بطابعها العمومي (أي الرسـمي)، أما العلاقات الثانية فهي روابط  خاصة تتضمن عنصرا خارجيا يتمثل سواء في اختلاف جنسية أطراف العلاقة (الـمغربية والفرنسية  مثال) أو اختلاف مكان إبرام العلاقة، والذي يكون خارج التراب الوطني

ويثار تنازع القوانين بكثرة في إطار القانون الدولي الـخاص، والذي يستلزم تـحديد القانون  الواجب التطبيق عندما يتم الرجوع إلى عدة أنظمة قانونية وطنية لـمعالـجة مشكل معني. ويـحدث أحيانا، ولأسباب شكلية، التشكيك في هذا التقسيم الكلاسيكي بين القانونيينوبالفعل، فكل قاعدة تـم إعدادها عن طريق الاتفاق بين الدول، أي عبر إجراءات بين-دولتية، تعتبر  من وجهة نظر شكلية قاعدة من قواعد القانون الدولي العام. ونلاحظ أن بعض القضايا المعتبرة، في  العادة، قضايا تندرج ضمن القانون الدولي الـخاص تنظم عبر اتفاقيات بين الدول.

 وفي هذه الحالات، يـمارس القانون الدولي العام تأثيرا كبريا يتـمثل في تآكل الـمجال  الـمحفوظ للقانون الدولي الـخاص

وإضافة إلى ذلك، بدأ الـخواص يدخلون أكثر في علاقات، تعاقدية أو غير تعاقدية، مهمة مع  الدول الأجنبية، وهي علاقات يقترب نظامها القانوني، والذي لازال يتطور، من القانون العام. وضمن هذه الـمعطيات مـجتمعة، هناك من اعتبر التمييز بين القانون الدولي العام والقانون  الدولي الـخاص تـمييزا سطحيا من الناحية العملية. وقد رفض "جورج سيل" بشدة هذا التمييز عندما  اعتبر أن "الـمجتمع الدولي واحد وكذلك القانون الدولي".

ويبقى أن نشير فقط إلى أن تسمية القانون الدولي الـخاص يـجب أن يضاف إليها دائما نعث  "الـخاص" والذي يـميزها، بينما تـحيل عبارة "القانون الدولي"، والتي تستعمل بدون نعث "العام" على  القانون الدولي العام في أصله الإنجليزي "Law International". 

- القانون الدولي قانون الـمجتمع الدولي أو الـجماعة الدولية؟ 

باعتباره قانون الـمجتمع الدولي "Internationale Société"، يقدم القانون الدولي  أحيانا أيضا باعتباره قانون الـجماعة الدولية "Internationale Communauté".  وبينما  لا يرفض أحد مفهوم الـمجتمع الدولي، تـم التشكيك في مفهوم الـجماعة الدولية.

ويظهر، انطلاقا من عدم الـتجانس الشديد بين الدول الـمنتشرة في العالـم، أن هذا الـمفهوم  غير منسجم مع فكرة وجود جماعة دولية معتبرة كجماعة كونية. ويظهر أن الاختلافات في العرق  والثقافة والدين والـحضارة يفرق الشعوب بدل أن يـجمعها. وتشكل الصراعات الإيديولوجية أو  السياسية بكل بساطة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، عوامل للتفرقة. كما أن اللا توازن الـمتزايد  للتنمية يوسع الفجوة أكثر بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. وتعبر عبارة الـعالـم الثالث " Tiers Monde "عن هذا الواقع

ورغم ذلك، توجد بني كل الدول مصالـح مادية مشتركة، والتي بنيت بفضل الروابط التي  أنشئنها الـحضارة التقنية

غير أن الـجماعة تتأسس على أسس روحية. ولا يـمكن أن يظهر الرابط الـجماعي " Lien Communautaire "إلا من خلال روابط ين دول درجة تـماثلها عميقة، لتحفز ظهور هذا  العنصر الذاتي الضروري. وتبقى الـجماعة الكونية للدول "يوتوبيا" خالصة

ويستند هذا التعارض أساسا على التمييز الذي قامت به نظرية سوسيولوجية ألـمانية بين  الـجماعة "Gemeinschaft "والـمجتمع "Gesellschaft"، بـحيث أن الرابط الـجماعي  يستند على الإحساس والشعور (الأبوة، الـجوار، الصداقة...)، بينما يتبنى الرابط الـمجتمعي فقط  على ضرورات التبادل، أي الـمصالـح. والعيش في جـماعة ينمي علاقات الثقة والصداقة، بينما تسود حالة من التوتر أساسا العيش في الـمجتمع الـمبين أساسا وفقط على الـمصلحة. ويظهر، على  الـمستوى الكوني، أن مفهوم الـمجتمع الدولي واقعي أكثر من مفهوم الـجماعة الدولية.

 وفي الواقع، فإن الاختلافات بين الشعوب لا تلغي هذا العنصر الذاتي الضروري والذي تعبر  عنه رغبة الدول في العيش معا "commun en Vivre "بغض النظر عما يفرقها. كما أن  هناك دعوات أخرى تقويه أيضا: الطابع العام للتصورات الأخلاقية، الشعور العام بضرورة العدالة،  التطلع العام للسلم، الاعتماد الاقتصادي الـمتبادل، ضرورة مـحاربة نقص التنمية المعترف بـها  كونيا... ويـمكن أن يكون التضامن بين الشعوب ضعيفا على الـمستوى الـعالـمي، لكنه لا يـجب  الـخلط بين وجود الـجـماعة الدولية (أو الـمجتمع الدولي) ودرجة تـماسكها

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق