نشأة الميزانية العامة في المجال التداولي الغربي/الأوروبي
نشأت الميزانية العامة في شكلها الحديث بصورة تدريجية في إنجلترا نتيجة نجاح مجلس العموم في تقييد سلطات الملك في الإنفاق والجباية وإخضاع ممارستها لإذن المسبق )الفقرة الأولى(. ونشات الميزانية العامة في فرنسا بذات المفهوم في أعقاب قيام الثورة الفرنسية حينما قامت الجمعية الوطنية التأسيسية في عام 1789 بتقرير عدم شرعية كل ضريبة لم تأذن بفرضها وجبايتها )الفقرة الثانية
الفقرة الأولى: نشأة الميزانية العامة في إنجلترا
إلى حدود القرون الوسطى، كانت حرية الملك في الإنفاق مطلقة، طالما أن جميع النفقات كانت تمول من ممتلكات التاج الخاصة. كما كانت سلطة الملك في فرض الضرائب محدودة جدا، تقتصر على فرض بعض الضرائب الاستثنائية التي تستلزمها بعض الظروف الخاصة مثل الحروب، وذلك بعد أخذ موافقة ممثلي الشعب، حسبما نص على ذلك "الميثاق الكبير" (Magna Carta) الذي أصد ره الملك “Jean sans terre” عام 1215
لكن نتيجة تزايد نفقات الدولة وعدم كفاية أموال التاج لتغطيتها، اضطر الملك إلى فرض الضرائب على نطاق واسع وغالبا دون الحصول على موافقة ممثلي الشعب، الأمر الذي حمل البرلمانات المتعاقبة على تكثيف ضغوطاتها لأجل تقييد السلطة الملكية في الجباية. وهو ما تحقق فعلا سنة 1628 ؛ تاريخ إصدار الملك شارل الأول لما يعرف ب "وثيقة إعلان الحقوق" (Petition of Right) التي أقرت مبدأ موافقة البرلمان المسبقة على فرض الضرائب .
غير أن هذا المبدأ لم يجد طريقه إلى التطبيق في الواقع، بفعل محاولات الملك المتكررة للاستئثار بسلطة فرض الضرائب وعقد القروض دون الرجوع إلى ممثلي الشعب، الأمر الذي أدى إلى قيام حرب أهلية، بين أنصار البرلمان وأنصار الملك، انتهت باستسلام هذا الأخير ومحاكمته في سنة . 1649 . وقد توج هذا الصراع بإصدار "وليام الثالث" لما يسمى "دستور الحقوق" (Bill of Rights) ، سنة 1688 وهو "الدستور" الذي سيتسع بمقتضاه إذن البرلمان ليشمل كافة أنواع الإيرادات والنفقات، ويتخذ هذا الإذن صفة دورية ومتجددة. على أن مبدأ اعتماد النفقات العامة من طرف البرلمان لم يطبق بشكل كلي إلا منذ سنة 1837 ، في عهد الملكة "فكتوريا"، حيث أصبح البرلمان يناقش كل النفقات باستثناء مخصصات العرش .
وبذلك فإن تعميم مبدأ الإذن أو الترخيص البرلماني لم يتحقق، في الواقع، إلا في القرن الثامن عشر، عندما أخذ البرلمان يناقش، قبل بداية كل سنة، أعمال الحكومة من خلال إيراداتها ونفقاتها، قبل أن يأذن بها أو يرفضها. وبذلك تبلور ا وستقر مفهوم أو مبدأ الترخيص البرلماني وبدأت مسألة تنظيم الميزانية العامة، تفرض نفسها كضرورة سياسية في إنجلترا تحت تأثير استمرار المطالبات الشعبية
الفقرة الثانية: نشأة الميزانية العامة في فرنسا
رغم الاحتجاجات الشعبية، ظل الملك في فرنسا، يستأثر بفرض وجباية الضرائب دون قيد أو شرط إلى حين قيام الثورة الفرنسية. حيث قامت الجمعية الوطنية التأسيسية في عام 1789 باتخاذ قرار يقضي بعدم شرعية كل ضريبة لم تأذن بفرضها وجبايتها. وقد تكرس هذا المبدأ بشكل واضح في "شرعة حقوق الإنسان والمواطن" التي أكدت على "أن من حق الشعب مباشرة أو بواسطة ممثليه أن يتأكد من ضرورة الضرائب وأن يوافق عليها بملء الحرية، ويراقب استعمالها، ويقرر أساسها ونسبتها، وطريقة جبايتها، ،) ومدتها" )المادة 14 كما تم تأييد هذا المبدأ أيضا في دستور عام 1793 الذي نص في أحد فصوله على أنه: "لا يمكن فرض أية ضريبة إلا في سبيل المصلحة العامة ولجميع المواطنين الحق في أن يسهموا بفرض الضرائب ويراقبوا استعمالها ويطلبوا بيانات عنها".
ولئن أجمعت الإعلانات والنصوص التي صدرت إبان وبعد الثورة الفرنسية على إقرار وترسيخ مبدأ عدم شرعية فرض الضرائب دون موافقة ممثلي الأمة، إلا أنها أغفلت المبادئ الأخرى التي أقرها دستور الحقوق الإنجليزي.
ولذلك لم تعرف فرنسا وجود "ميزانية" بالمعنى الحقيقي إلا بعد سقوط نابليون وعودة الملكية في عام 1814 ، وذلك بشكل عادي وطبيعي، "دون مناقشات أو ضغوطات كما لو كان الأمر متعلق بظاهرة طبيعية ."
وعموما فإن حق البرلمان في الإجازة لم يتقرر في فرنسا إلا منذ فترة حديثة نسبيا، كما أنه لم يتقرر دفعة واحدة، وإنما بدأ بالنسبة للضرائب أولا، ثم بالنسبة للنفقات العامة ثانيا، حيث وجد البرلمان أن حقه في إجازة الضرائب يقتضي بالضرورة مراقبته لكيفية ودواعي إنفاق حصيلة هذه الضرائب، ثم اقتضى ذلك ضرورة تقديم الإيرادات العامة والنفقات العامة في تقدير واحد يتضمنهما معا، وبصفة دورية ومتجددة، فنشأت بذلك "الميزانية"
التي تستوجب ضرورة إجازة البرلمان لما تتضمنه هذه الأخيرة من إيرادات ونفقات.