التطورات التكنولوجية والأنماط الجديدة للعمل

 

مذكرة منهجية

حول موضوع:  التطورات التكنولوجية والأنماط الجديدة للعمل 

 

    I.         السياق:

يعرف عالم الشغل منذ أكثر من ثلاثة عقود تحولات عميقة اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية أفرزتها العولمة، وقد انعكست هذه التحولات على نظم الانتاج.

إن الابتكارات التكنولوجية التي أدخلت على العملية الإنتاجية، انعكست على الانتاج ومرونة العمل وأنظمة العلاقات المهنية وتدبير الموارد البشرية.

وتتميز هذه الابتكارات التكنولوجية بظهور وسائل الاتصال الحديثة والآليات ذات التحكم الرقمي، وكذا بالتطور الهائل في مجال الاعلاميات وأنماط الاتصال.

II.         آثار التطورات التكنولوجية:

إن آثار الثورة التكنولوجية في مجال الشغل متعددة، فهي تمس التشغيل وتنظيم العمل وسوق الشغل والتشريع الاجتماعي وتنافسية المقاولة ومواردها البشرية.

 

الوقع على التشغيل:

لقد ألغت العولمة الحدود وحررت المبادلات التجارية، وسهلت حرية حركة رؤوس الأموال، وأدت إلى تجزئة وتدويل مختلف مراحل الإنتاج وكذا إلى ترحيل الخدمات.

ولم يعد التشغيل في الظرفية الحالية، بفعل هذه العولمة، شكليا ونمطيا وقارا كما كان في السابق.

وأضحى التشغيل في الصناعة يتقهقر لحساب التشغيل في قطاع الخدمات، وذلك نتيجة هيمنة النشاط الخدماتي في الاقتصاديات الوطنية المختلفة.

وقد ساعدت الابتكارات التكنولوجية الجديدة على ظهور أشكال جديدة للتشغيل تعتبر في كليتها لا نمطية مثل: العمل لبعض الوقت، العمل عن بعد، العمل بالمنازل، المقاولة من الباطن، تقديم خدمات...إلخ.

إن تطور بنية النسيج الاقتصادي أدى إلى إعادة تشكيل بنية فئة الأجراء التي أصبحت تضم فئة جديدة يطلق عليها اسم شبه الأجراء para-salariat، أي فئة من الأجراء مستقلين إلى حد ما، لكنهم أجراء تابعين حسب المعايير الكلاسيكية للتبعية.

وتتكون هذه الفئة من أجراء يمارسون أعمالهم بالخصوص في مجالات الإعلام والإعلاميات والتواصل، وقد بدأت هذه الفئة من الأجراء تقتحم قطاعات إنتاجية أخرى.

الوقع على أنماط تنظيم العمل:      

أصبحت المقاولات تلجأ إلى أنماط مرنة لتنظيم العمل. ذلك أن التكنولوجيات الحديثة والأشكال الجديدة للتشغيل أصبحت تفرض أنواعا جديدة للعمل: إنجاز بعض الأنشطة خارج المقاولة الأصلية Externalisation، اللجوء إلى خدمات المقاولات الخارجية، وإلى مقاولات التشغيل المؤقت.

وتهدف المقاولات من وراء هذه الأنماط الجديدة إلى البحث عن الفعالية الاقتصادية والإنتاجية والتنافسية، وذلك بتخفيض تكلفة الانتاج في محيط دولي متميز بالمنافسة.

الوقع على سوق الشغل:

إذا كان سوق الشغل، ولمدة طويلة، متسما بنوع من الاستقرار بفضل طبيعة وديمومة العمل، خاصة إذا كان العمل صناعيا محدثا في إطار استراتيجية التنمية الموجهة للداخل Développement endogène، فقد أصبح حجم العمل القار يتقلص حاليا أمام تنامي الأعمال المؤقتة في إطار مقاولات غير دائمة Non Durables Entreprises  )مؤسسات محدثة لمدة قصيرة في ظل اقتصاد معولم (.

وتبين الدراسات المنجزة في هذا الإطار بأن التكنولوجيا والعولمة يمكن أن يشكلا في بعض الحالات فرصا لإحداث مناصب شغل، وفي حالات أخرى عاملين لتقليص هذه المناصب.

إن سوق الشغل أصبح ثنائيا، إذ يشمل العمل القار الذي يقل أكثر فأكثر من جهة، والعمل اللانمطي الذي يتطور بشكل سريع من جهة أخرى. ولم يستطع هذا السوق لحد الآن أن يهيكل ويؤطر بطريقة منسجمة العمل اللانمطي ليجعل منه عاملا لتنافسية المقاولة، ووسيلة للنهوض بالوضع الاجتماعي للأجراء.

الوقع على التشريع الاجتماعي:

 توجد في المحيط المغربي قطيعة بين تشريع الشغل وسوق الشغل.

ذلك أن مدونة الشغل غير منفتحة على سوق الشغل، في حين نجد أن كثيرا من الدول وخاصة في أوروبا الغربية أدخلت عدة إصلاحات على تشريعاتها الاجتماعية تحت تأثير الأزمات الاقتصادية والمالية لملاءمتها مع متطلبات المحيط الجديد ومراعاة لإكراهات المقاولات.

وقد أقرت هذه الاصلاحات على الخصوص إدخال مرونة أكثر في هذه التشريعات وتأطير أشكال جديدة للتشغيل، وتطوير قانون للشغل متفاوض عليه.

إن تشريع الشغل بالمغرب، والذي يتمثل في شموليته في مدونة الشغل، لم يضع إطارا قانونيا ملائما لتأطير الأشكال الجديدة للتشغيل وذلك لتنظيم علاقة الشغل في هذا الإطار وضمان الحقوق الأساسية في العمل لفائدة الأجراء المشغلين ضمن الأشكال الجديدة للتشغيل.

 

 

 

 

 

الوقع على المقاولة ومواردها البشرية:

يشكل الابتكار التكنولوجي والأشكال الجديدة للتشغيل عوامل لتنافسية المقاولة وهيكلتها.

إذا كانت التكنولوجيا الحديثة تساهم في تحسين الجودة وتستجيب لانتظارات المستهلك. فإنه وعلى النقيض من ذلك، فإن تقادم الآلية التكنولوجية يضعف من تنافسية المقاولة. ولذلك، فإن المرونة التي تتسم بها الأشكال الجديدة للتشغيل تمكن من التكيف مع حركية سوق الشغل ومتطلبات الزبناء. غير أن إدخال تكنولوجية متطورة جدا يتسبب في انعكاسات سلبية على الموارد البشرية، إذا لم تستطع هذه الموارد التكيف مع الأنماط الجديدة لهذه التكنولوجيا أو إذا أصبحت متجاوزة بالنسبة للتطور التكنولوجي مما يؤدي إلى التسريحات.

III.         منظمة العمل الدولية والأنماط الجديدة للتشغيل:

واكبت منظمة العمل الدولية وتابعت وقع العولمة على المقاولة وعلى علاقات الشغل منذ سنة  1998. وقد درست هذه المنظمة تحولات عالم الشغل وانعكاساتها على الوضعية الاجتماعية للأجراء.

وفي إطار مؤتمراتها الدولية، اعتمدت منظمة العمل الدولية معايير على شكل اتفاقيات وتوصيات ومصادر أخرى لتقنين العمل لبعض الوقت، والعمل بالمنازل، والتشغيل المؤقت والمقاولة من الباطن. وقد سهرت هذه المنظمة على ألا يتم هضم الحقوق الأساسية في العمل خاصة في إطار التبادل الحر المكرس في الاتفاقيات الدولية المتعددة أو الثنائية الأطراف.

ويعتبر نشاط منظمة العمل الدولية المعياري والتقني مصدرا للاسترشاد بالنسبة للدول من أجل تأطير الأشكال الجديدة للتشغيل.

IV.         الحوار الاجتماعي والتكنولوجيات الجديدة والأنماط الجديدة للتشغيل:

إن القضايا ذات الصلة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والابتكارات التكنولوجية والأنماط الجديدة للتشغيل، توجد في صلب اهتمامات السلطات العمومية والفرقاء الاجتماعيين، وذلك نظرا لآثارها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتبعا لذلك، فإنها تتطلب نقاشا ثلاثي الأطراف.

إن لهذه التحولات آثار على التشغيل والفعالية الاقتصادية والحماية الاجتماعية، ومن هنا تبرز أهمية حوار رفيع المستوى مثلا في إطار المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أو اللجنة الوطنية الثلاثية التركيب المكلفة بتتبع التطبيق السليم لأحكام مدونة الشغل المنظمة للتشغيل المؤقت، كما أن هذا الحوار يمكن أن ينظم أيضا داخل لجان المقاولات.

إن الهدف إذن، هو وضع إطار قانوني ملائم وكفيل بإقرار المرونة من جهة، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى،

 

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق