تطور المرافق العمومية مع تطور الدولة

مقدمة

المرفق العمومي هو جوهر النقاش السياسي الأيديولوجي  حول تطور الدور الذي تضطلع به الدولة في المجتمع من الدولة الحارسة إلى دولة الرفاه وما رافقه من انتشار للخدمات العمومية.

كما يعتبر المرفق العمومي مفهوما مركزيا في القانون الإداري  وصعبا أيضا لأنه  تطور بتطور الأفكار  التي فرضت على الفقه خلق نظريات واتجاهات تفسيرية لازال  هذا المفهوم يلعب دورا هاما في الفقه والقضاء. II

.ظهور الدولة وتحديد مفهومها: 1

 .نشأة الدولة: لنعًرف الدولة لابد  من التطرق ولو بشكل مختصر للنظريات المفسرة لنشأتها، فإن كان الإجماع  اليوم على تجاوز النظرية الإلهية  المباشرة  وغير المباشرة فمازالت النظريات الأخرى  تقدم تفسيرا مقبولا لنشأة الدولة بنته على القوة ، التاريخ ، الطبيعة  أو العقد ،ومادامت الدولة موجودة وجودا واقعيا رغم تعدد النظريات يفرض تحديد مفهومها.

 .2 مفهوم الدولة

: على الرغم من تعدد التعاريف من المهم استقاء المناسب منها محاولة لحصر هذا المفهوم المتشعب؛

- هولاند: "الدولة مجموعة من الكائنات البشرية تشغل إقليما وتسود فيه إرادة طبقة معينة من الأفراد  بفعل  قوة ما فتصبح قادرة على الأمر  والنهي والحكم كما يطلب لها" . - ريموند كارفيليد: "يعرف الدولة على أنها مجتمع من الأفراد  يقيمون بشكل مستمر ومستقلين بقوانينهم من أي تدخل أو تسلط خارجي ولهم حكومة منظمة تشرع وتطبق قوانينها على جميع الأفراد  داخل  حدودها"

  بطرس غالي: "يعرف الدولة بأنها مجموعة من الأفراد  يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين تسيطر عليهم  هيئة معينة تنظم استقرارهم داخل حدودهم" .

يتضح من خلال  التعاريف السابقة أن عناصر الدولة هي؛ السكان، الأرض والسيادة. رغم الاختلاف  حول السيادة والحكومة من اعتبارها من الأسس التي تبنى عليها الدولة يمكن القول »أن السيادة والحكومة هما العناصر المتممة لتكوين الدولة ويؤتى بها من السكان أصلا وعلى الأرض  التي يقطنوها  .و خلاصة  القول أن الدولة هي جماعة من الأفراد يقيمون باستمرار على أرض إقليم معين " تتوفر فيه سلطة ذات سيادة قادرة على سن قوانين و إنفاذها على الجميع بالتساوي. II

I .ظهور المرفق العمومي وتطور مفهومه

 احتاجت الدولة لتحقيق أهدافها العامة إلى احداث هيئات، مؤسسات وبنيات تتطور مع تنوع الحاجيات العامة ومتطلبات أفراد المجتمع وعن طريقها تتدخل الدولة لضبط النظام العام داخل المجتمع وتقديم الخدمات العامة لأفراده

. 1 .ظهور المرفق العمومي

أ‌.      فكرة المرفق العمومي قبل الثورة الفرنسية

 انتشر في العصور الوسطى نظام الإقطاع ، امتلك حينها رجال الإقطاع  للأراضي  وهيمنوا على الثورة الزراعية، و ضم هذا النظام بعض المرافق العمومية البسيطة التي احتاج لها الفلاحون  في حياتهم كالطواحن و الأفران التي كانت مملوكة من قبل رجال الإقطاع  وتقدم هذه الخدمات للفلاحين  مقابل رسوم، وسرعان ما عرف هذا الوضع تطورا مع بداية القرن الحادي عشر حين ظهرت تجمعات خارج هيمنة الإقطاعية، أدركت ضرورة إنشاء المرافق العامة التي تحقق المصلحة العامة الجماعية مثل حراسة الأسوار  وصيانة الطرق، وخضعت هذه المرافق لأعراف وبعض الأسس الفقهية المستمدة من أعمال القانون الروماني والكنسي، ومن أهم هذه الأسس فكرة ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

ومع ظهور الدولة الملكية في القرن الخامس عشر تركزت النظرية السياسية في شخص الملك وخدمة الملك الذي سبب في إنشاء عدة مرافق عامة؛ كمرفق البريد من أجل تسهل اتصال الملك مع مختلف الأقسام  الملكية ،أما عن العالم العربي؛ برزت آنذاك بعض المرافق العمومية كالصحة والتعليم

وعليه فان العصور الوسطى عرفت المرفق العام كمفهوم سواء في إطار الإقطاع  أو النظام الملكي، أو في بعض الدول العربية لكن بصفة محتشمة وليس بمفهومه الحديث .

ب‌. فكرة المرفق العام إبان الثورة الفرنسية

كان أول ظهور لمصطلح المرفق العام عقب الثورة الفرنسية، حيث دل في البداية على عدة مفاهيم، فتارة يعني الخدمة العامة، وتارة مهمة تهدف الى المصلحة العامة، وتارة أخرى هيئة تؤدي خدمة عامة للمواطنين كالبريد. ولقد نتجت عن الثورة الفرنسية الأسس الفقهية لفكرة المرفق العام، إذ بدأ برز الفصل بين الحكام والدولة، فالحكام مجرد ممثلين للدولة، وما يمكن أن استنتاجه من خلال  هذه المرحلة أن فكر الثورة الفرنسية رسخ لأفكار  التي كانت سائدة في الأنظمة  السابقة والمتعلقة بالمرفق العام، وأكد على فكرة المصلحة العامة . ت. فكرة المرفق العام بعد الثورة الفرنسية

 بعد الثورة الفرنسية تكرس تمثل الدولة الحارسة، وتكرس معه تبلور المفهوم التقليدي لفكرة المرفق العام، وقد أكد على ذلك العديد من القرارات القضائية وتبناه مجموعة من الفقهاء، غير أنه سرعان ما عرف هذا الوضع تغيرا مع ظهور تمثل جديد للدولة وهو دولة الرعاية، لذا من خلال هذه النقط سنتناول مفهوم المرفق العام وتطوره . 2

 .تطور مفهوم المرفق العام

. المعنى الاصطلاحي للمرفق العمومي :نظرا لما يترتب عن الترجمة من اللغة الفرنسية من لبس في فهم المعنى الاصطلاحي  للمرفق العام، لذا سنعرض تعريف باللغة الفرنسية وسنحاول صياغة تعريف تركيبي يقرب لنا المعنى بدقة، وتجدر الإشارة  إلى أن عبارة المرفق العام المرفق العمومي أو الخدمة العامة موجودة قبل ق 19م ولكن لم يكن  لها أي معنى قانوني أو فقهي

. Le service public est une activité qui tend à procurer

à la collectivité des biens et des services considérés comme nécessaires à la satisfaction de l’intérêt général ; dans cette acception, le service public est une activité de prestation de biens et de services. On peut aussi entendre l’expression service public dans un sens organique et l’on désignera alors sous le nom de service public les administrations chargées de ces prestations : le service public de l’éducation nationale, le service public des transports, de la santé, etc

 . وعليه فالمرفق العمومي أو العام هو: نشاط يهدف إلى أن يوفر لجماعة من السكان خدمة أو منفعة مادية تعد ضرورية لتحقيق المصلحة العامة. بالمعنى العضوي؛

المرفق هو الإدارات  أو الهيئات التي يقع على عاتقها توفير الخدمات العمومية لمجموع المواطنين مثل المرفق العمومي المكلف بالتربية والتعليم، والمرفق العمومي المكلف بتوفير خدمة الصحة. يعتبر المرفق العمومي مفهوما مركزيا في القانون الإداري ومؤطرا لعمل الإدارة  حيث أن وجودها مرتبط أساسا بالخدمة العمومية كما أن قواعد القانون الإداري في جوهرها هو ضمان سير المرفق العمومي في أحسن الظروف

 ج. المفهوم الكلاسيكي للمرفق العمومي

يتحدد المفهوم الكلاسيكي للمرفق العمومي من خلال كونه كل خدمة تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة تؤديها هيئة عامة أو تحت إشرافها ومراقبتها ويخضع للقانون الاداري وهو المفهوم الذي تبنته مدرسة بوردو تحت رئاسة العميد Duguit Léon . نلاحظ  التقاء العناصر الثلاثة  في التعريف السابق؛ العنصر المادي وهو المصلحة العامة، العنصر العضوي وهو الهيئة العامة ثم العنصر القانوني ويتجلى في خضوعه لمقتضيات القانون الإداري.

ح. المصلحة العامة يتجلى معنى المصلحة العامة في اشباع حاجيات جماعة من المواطنين والتي لا تتحقق فعليا  بالمبادرة الخاصة. بل تتكلف بها السلطات العامة وتتم خارج السوق . ساد هذا المفهوم خلال  تبني الايديولوجية الليبيرالية التي حدت من تدخل الدولة إلى الحد الأدنى الذي يضمن استمرار الحياة الاجتماعية أو ما اصطلح عليه "الدولة الحارسة" التي ارتبطت أنشطتها بالسيادة؛ الأمن، الدفاع، العدالة، المالية والديبلوماسية بالإضافة  إلى بعض الخدمات الضرورية للمواطنين التي لا يمكن تحقيقها من طرف الخواص.لازال  البعض يدافع عن هذا التوجه إلى حدود 1921 .

خ. الهيئة العمومية

 تسيير المرفق العمومي أو الإشراف عليه من طرف هيئة عامة أو سلطة عامة هو نتيجة منطقية لطبيعته العمومية ولغرض تحقيق المصلحة العامة فمن الضروري إذن أن يوضع المرفق العمومي تحت مسؤولية سلطة إدارية وبالتالي فالدولة والجماعات الترابية هي التي تنشأ المرافق العمومية

. د. النظام القانوني للمرفق العمومي

يطبق القانون الإداري على اعتبار أن قواعده ارتبطت بالمصلحة العامة التي تحققها أنشطة السلطة العمومية. يضطرنا هذا إلى الإشارة  إلى حكم Blanco الصادر بتاريخ 8 فبراير 1873م والذي حمل الدولة المسؤولية وصرحت محكمة التنازع بما يلي : « Considérant que la responsabilité qui peut incomber à l’État pour les dommages causés aux particuliers par le fait des personnes qu’il emploie dans le service public, ne peut être régie par les principes qui sont établis dans le code civil pour les rapports de particulier à particulier. Que cette responsabilité n’est ni générale, ni absolue, qu’elle a ses règles spéciales qui varient suivant les besoins du service et la nécessité de concilier les droits de l’État avec les droits privés21. أرسى هذا الحكم المبادئ التالية

: - يحدد موضوع النزاع الاختصاص القضائي

. - يشكل المرفق العمومي الأساس لتطبيق القانون الإداري

. - مسؤولية الدولة ليست عامة ولا مطلقة وإنما تحكمها قواعد خاصة. –

- تقرر مبدأ التعويض عن الأضرار على  تصرف الإدارى الذي يلحق ضررا بالأفراد

. منح القانون الإداري  للسلطة العمومية امتيازات للقيام بدورها في تحقيق المصلحة العامة كما حملها بمسؤوليات في حدود الاختصاص المخول لها.

و خلال هذه المرحلة لعب المرفق العمومي الدور المركزي في القانون الإداري  بل هو أساس القانون الإداري . كم أكد على ذلك مفوض الحكومة Romieu في معرض تعليقه على حكم Terrier

 « Tout ce qui concerne l’organisation et le fonctionnement des services publics proprement dits, généraux ou locaux (…) constitue une opération administrative qui est, par sa nature, du domaine de la juridiction administrative (…). Toutes les actions entre les personnes publiques et les tiers, ou entre ces personnes publiques elles-mêmes, et fondées sur l’exécution, l’inexécution ou la mauvaise exécution d’un service public sont de la compétence administrative. »

أزمة المرفق العمومي و التحولات التي طرأت على مفهومه

 تغير مفهوم المصلحة العامة خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين حيث تعدت المصلحة العامة ما هو ضروري لجماعة إلى كل ما هو نافع، كما أن الأزمات الاقتصادية والسياسية فرضت تغيير الايديولوجيا واعتبار كل الأنشطة  و الأعمال المهمة و النافعة للجماعة ضمن نطاق المصلحة العامة وبالتالي يمكن اعتبارها خدمة عمومية إذا قررت الدولة إنشاء مرفق عمومي

 ترسخ هذا التوجه و تعددت تدخلات  السلطات العمومية في كل المجالات الاقتصادية و الاجتماعية مما وسع من مفهوم المصلحة العامة إلى درجة أصبح من الضروري فصلها عن المرفق العمومي مما فرض إعادة صياغة مفهوم المرفق العمومي من خلال  إحداث قطيعة و فصل هم ثلاث أبعاد

. ذ. فصل المصلحة العامة عن المرفق العمومي

لم يعد هناك تطابق بين مفهوم المصلحة العامة والمرفق العمومي كخدمة و نشاط و صارت تدخلات أشخاص القانون الخاص التي يمكن ضبطها باختصاصات الشرطة الادارية تخدم المصلحة العامة ولربما بطريقة أنجع، كما صار من الصعب تحديد مجال محدد لأعمال السلطة العمومية، بل إن هذه السلطة اتسع مجال تدخلها في الميدان الاقتصادي و المالي دون حضور هاجس خدمة عمومية

. ر. فصل الخدمة العمومية عن الهيئة العمومية

توفر خدمة عمومية لا يعني بالضرورة وجود هيئة عمومية تسيرها، فخارج المجالات التي تحتكرها الدولة نجد منافسة بينها وبين المتدخلين الخواص في مجالات أخرى كالصحة والتعليم مثال، كما نشهد شراكات واتفاقات وتعاقدات يتحمل فيها أشخاص القانون الخاص كل الالتزامات المتعلقة بتقديم  خدمة عمومية أو جزء منها على الأقل.وعليه ليس المرفق العمومي رديف الهيئة العمومية  حيث شاع تقديم الخدمات العمومية من طرف الأشخاص الخاصة

. ز. انفصال المرفق العمومي عن القضاء الإداري

 مفاد هذا الإنفصال  هو أن الأشخاص العامة المكلفين بتسيير المرفق عمومي لم يعودوا خاضعين بالضرورة للقانون الإداري  حيث يمكن للهيئة العمومية اللجوء للقضاء العادي عند عدم الحاجة لتطبيق قواعد خاصة خصوصا إذا تعلق الأمر بالأعمال في الميدان الصناعي والتجاري التي تخضع من حيث المبدأ للقانون الخاص. وهذا لا يمنع تطبيق القانون الإداري على الأشخاص الخاصة ولو جزئيا عندما تمكنه الدولة من بعض اختصاصات السلطة العامة. 4

.مفهوم المرفق العمومي ودوره حاليا

التطور الذي طبع مفهوم المرفق العمومي رافقه تحول في دوره وكيفية تمييزه و أثر ذلك في الفكرة الجوهرية التي يستند عليها" امتياز السلطة العامة في ضمان وتقديم الخدمة العمومية

" . أ. تمييز المرفق العمومي

تحديد المرفق العمومي وتمييزه يتطلب اللجوء إلى عدة معايير: -

 معيار المصلحة العامة

  . - تسيير المرفق العمومي بطريقة وأسلوب مختلف عن تسيير الخواص لأنشطتهم المشابهة. –

 معيار السلطة العامة يعبر عنه الفقه برغبة الدولة بإنشاء مرفق عمومي وتحديد الالتزامات و الاختصاصات

. - معيار المركز القانوني ووسائل القانون المستعملة. يبقى من اختصاص القاضي أن يأخذ بهذه المعايير ليحلل النظام القانوني فيحدد إن كان الأمر يتعلق بمرفق عمومي.

ب -دور المرفق العمومي

 لم يعد المرفق العمومي مفهوم مركزي في القانون الإداري لا  قاعدة تطبيقه كما لم يعد محددا لاختصاص القضاء الاداري

. تبقى فكرة تحقيق المصلحة العامة اللصيقة بالمرفق العمومي وكذلك طابع السلطة العامة المرتبط بالمرفق العمومي يحددان الاختصاص القضائي المناسب لكل حالة موضوع نزاع. نضيف أن للمرفق العمومي دور لما راكم من مبادئ و حدد من اختصاصات في مساعدة السلطة العامة على تحديد التزامات و امتيازات الخواص الذين يضطلعون بتقديم الخدمة العمومية. نجمل القول بأن مفهوم المرفق العمومي هو شرط ضروري وغير كافي لتطبيق القانون الإداري

.خاتمة

لم يتخل القضاء الإداري عن معيار المرفق العمومي لازال محور اهتمام الاتجاهات الفقهية إزاء إشكالية أساس القانون الاداري و الاختصاص القضائي التي يمكن تصنيفها إلى: - اتجاه يرجح الوسيلة على الغاية؛ بجعله السلطة هي الأساس والمعيار. –

 اتجاه يغلب الغاية على الوسيلة؛ بجعل الأساس هو المرفق العام (المنفعة العامة(. –

اتجاه حديث يجمع بين الغاية والوسيلة بجعل الأساس  مركبا شاملا  لكل من السلطة العامة والمرفق العام.

 يبقى من الضروري تصنيف المرافق العمومية حسب طبيعة نشاطاتها ودراسة أساليب إدارتها لتعميق الفهم و الإلمام  بجميع جوانب موضوع المرافق العمومية