الحجز لدى الغير لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد المؤسسات العمومية
الحجز لدى الغير لتنفيذ الأحكام القضائية
الصادرة ضد المؤسسات العمومية
تعليق على الأمر الاستعجالي الصادر عن
المحكمة الإدارية بالرباط
عدد 182 بتاريخ 24/09/1997
فاطمة العنصري ضد مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي باللوكوس *
ذ. آمال المشرفي
أستاذ بكلية الشريعة – أكادير
يعتبر هذا الأمر الاستعجالي خطوة أخرى يخطوها القضاء الإداري غداة إحداث المحاكم الإدارية، لمعالجة إشكالية عدم تنفيذ الأحكام القضائية من قبل الجماعات العمومية. وبالرغم من بعض التصريحات التي تستند إلى القلة العددية لحالات عدم التنفيذ، للتقليص من حدة سلبية آثار هذا الوضع على مبدأ سيادة القانون، فإن هذه الظاهرة ما فتئت تتفاقم موازاة لتكاثر الأحكام الصادرة ضد الجماعات العمومية، خاصة بعد شروع المحاكم الإدارية المحدثة في عملها[1]. والى حد الآن، وفي غياب تدخل تشريعي يضع الوسائل الكفيلة لمواجهة هذه الظاهرة، لم يبق إذن إلا السبيل القضائي لسد هذا الفرغ. وفعلا، فإن القضاء الإداري من خلال دوره الخلاق والإنشائي، بادر في هذا العدد باقتراح حلول تبدو له متماشية مع واقعنا، ومستجيبة لمتطلبات استكمال بناء دولة الحق والقانون، التي يعتبر تنفيذ الأحكام القضائية، إحدى دعائمها الأساسية. فالقضاء الإداري قام بدوره التكميلي أحسن قيام، لتجاوز إشكالية عدم تنفيذ الأحكام القضائية من قبل الإدارة، كما يظهر لنا ذلك جليا في الأمر الاستعجالي الذي نحن بصدده.
1- ففي هذه القضية، صدر ابتدائيا عن محكمة الرباط الإدارية[2] يقضي بأداء المكتب الجهوي اللاستثمار الفلاحي باللوكوس، لفائدة المدعية تعويضا مدنيا قدره 0008. 000 درهم مع النفاذ المعجل،[3] في حدود الربع. لكن المكتب المحكوم عليه امتنع عن تنفيذ هذا الحكم. وأمام هذا الرفض، وبعد استنفاذ جميع المحاولات، لجأت المدعية الى مسطرة الحجز لدى الغير. وتم بناء على الحكم الابتدائي المشار إليه، والذي يشكل سندا تنفيذيا، حجز المبلغ المحدد في الربع والمشمول بالنفاذ المعجل على حساب المكتب المذكور بين يدي الخزينة العامة للمملكة. وتقدمت المدعية الى السيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط بصفته هذه بطلب تلتمس فيه التصديق على ذلك الحجز، والحكم بصحته لإجرائه طبقا للقانون. فاستجاب رئيس المحكمة لهذا الطلب، وأصدر أمرا يجيز فيه حجز أموال المؤسسات العمومية في حالة رفضها بدون مبرر تنفيذ حكم قضائي صادر في مواجهتها، في غياب نص قانوني صریح يمنع ذلك.
2- وهنا تكمن بالذات أهمية هذا الحكم الذي ذهب أبعد مما توصل إليه القضاء الإداري لإلزام الإدارة بالإذعان للأحكام التي تعنيها، ودفع بالتوجه الجديد الذي أصبح هذا القضاء يسير عليه في موضوع التنفيذ الى أقصى حدوده. فبعدما ثبتت قضائيا إمكانية مواجهة الدولة بغرامة تهديدية لتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها،[4] غدا حجز أموال المؤسسات العمومية أمرا واردا لبلوغ نفس الغاية. فالحجز خطوة كبيرة الى الأمام المقاومة عدم تنفيذ الأحكام القضائية وطفرة نوعية للقضاء الإداري الذي أصبح فيه بموجب ذلك، لمبدأ قوة الشيء المقضي به مدلوله الحقيقي.
وقد أثار نائب المكتب المعني، عدة دفوع من أهمها أن المكتب حسب النص المنشيء له، مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي. ويتجسد هذا الاستقلال في كون المكتب يتوفر على ذمة مالية خاصة تتكون من موارد عديدة ومنها الإعانات التي تقدمها الدولة. ولذلك، فإن أموال المكتب المودعة لدى الخزينة العامة للمملكة، هي بطبيعتها أموال عمومية مصدرها الرئيسي الميزانية العامة للدولة. وقد دأب العمل القضائي على اعتبار الأموال العامة بما فيها أموال المؤسسات العمومية غير قابلة لطرق التنفيذ العادية كالنفاذ المعجل، والتنفيذ الجبري والحجز المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية في حالة نزاع بين الخواص، لسببين أساسيين. أولهما أن هذه الإجراءات التنفيذية تتعارض مع قواعد وأنظمة المحاسبة العامة. وثانيهما، نابع من افتراض مسلم به وهو يسر المؤسسات العمومية، وملاءة ذمتها. فطرق التنفيذ المشار إليها لا يصح تطبيقها على مؤسسة عمومية لها ذمة مالية تمكنها من تسديد ما عليها من ديون. ويعمل بهذه الطرق فقط تجاه مدين يخشى إعساره، وهذا أمر غير متوقع بالنسبة لمؤسسة عمومية. فالمكتب المعني، يستفيد إذن من الحماية القانونية المتمثلة في عدم إيقاع الحجز على أموال الجماعات العمومية، وبالتالي يتعين الحكم بعدم قبول الطلب، والتصريح ببطلان إجراءات الحجز الموقع على حساب المكتب المحجوز عليه.
لكن رئيس المحكمة رد كل هذه الدفوع، وحكم في اتجاه يضع حدا لتعنت المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي، ويضمن حقوق المدعية. ومن خلال استقراء كافة معطيات القضية، الواقعية والقانونية، أعطى لهذه الأخيرة تفسيرا واسعا، يستجيب للرغبة الأكيدة لجعل القضاء الإداري حاميا لحقوق وحريات المواطنين. وأسس حكمه على أسباب قانونية سليمة، تستند إلى استدلال استنباطي منطقي، عودنا عليه في مجالات أخرى..
فبدأ القاضي أولا، بفحص الوسيلة المتعلقة بكون أموال المكتب المحجوز عليه، أموال عمومية تجد مصدرها في ميزانية الدولة، مما يجعلها غير قابلة للحجز. فأجاب بأن الدولة بالرغم من أنها تقدم من ميزانيتها إعانات للمكتب المعني، فإن هذه الإعانات بمجرد تحويلها للمكتب بصفته مؤسسة عمومية، تدخل في الذمة المالية لهذا الشخص المعنوي الذي له كيان ذاتي خصوصي، وتستقل تماما عن ميزانية الدولة. واستقلال الذمة المالية للمكتب، يجعل مصدر أمواله لا اعتبار له في إمكانية حجزها. فالطبيعة العامة لهذه الأموال ليست العلة الرئيسية في عدم إيقاع الحجز عليها، حيث أصبحت شرطا غير مرجح للحيلولة دون اللجوء لهذا الإجراء التنفيذي. وتبعا لذلك، يمكن مبدئيا حجز أموال أمن كانت عمومية، في حالة قيام أسباب تبرر هذا الإجراء. فالعبرة ليست بالطبيعة العامة للأموال المراد حجزها، ولكن بنوعية الجماعة العمومية التي تملك هذه الأموال. ومتى إذا استمرت أموال الدولة في الاستفادة من الحماية القانونية التي تجعلها غير قابلة للحجز، فإن هذه الحماية الأصلية لا تمتد بالتبعية إلى أموال الأشخاص المعنوية المرفقية، اعتبارا فقط لطبيعتها العامة، بالرغم من أن هذه الأشخاص تنشؤها الدولة بنفسها وتمولها. وهذا من شأنه أن يزعزع المبدأ العام القاضي بعدم جواز حجز كافة الأموال العمومية دون أي تمييز بين أصحابها.
واستعرض القاضي بعد ذلك، السبب الرئيسي في عدم جواز الحجز على أموال المؤسسات العمومية. فعدم الحجز هذا نابع من كون هذه المؤسسات مليئة الذمة. أي أن لها من الأموال ما يجعلها قادرة على الوفاء بالديون التي تلزمها، كيفما كان مصدر هذه الديون، تعاقديا أم قضائيا. فهذه المؤسسات من صنف الأشخاص الموسرة التي، لكن كانت مدينة ومهما بلغت دیونها، تتوفر على ذمة مالية خاصة بها، تمكنها من أداء هذه الديون، مما يجعل الدائن في مأمن من عسرها، ولا يخشى على حقوقه من الضياع [5] فهذه الحقوق مصونة ومضمونة بما فيه الكفاية في جميع الأحوال نتيجة ملاءة ذمة المؤسسات العمومية المدنية، ولا حاجة إلى اللجوء إلى إجراء الحجز على أموال هذه المؤسسات.
لكن يضيف القاضي، موضحا المدلول الحقيقي لمبدأ عدم جواز الحجز، بأنه لا يتعين أخذ هذا المبدأ على إطلاقه، وتطبيقه بصفة آلية دون اعتبار لمعطيات الحالات التي يطبق فيها والأغراض المتوخاة من ذلك. فهذا المبدأ يستبعد تماما في حالة امتناع مؤسسة عمومية دون أي مبرر قانوني الاذعان لحكم قضائي صادر في مواجهتها، وعندما يكون من شأنه حرمان الدائن من الحصول على حقوقه، والمتمثلة في النازلة في التعويض المدني المحكوم به. فلا يجوز الاحتماء بهذا المبدأ، لشل حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، ولإضاعة حق، خاصة وأن جميع المحاولات التي قامت بها المدعية للحصول على حقها، اصطدمت بتقاعس وإصرار المؤسسة العمومية المحكوم عليها بعدم تنفيذ الحكم الصادر ضدها، وأداء التعويض. ذلك لأن الأحكام القضائية واجبة التنفيذ من قبل المعنيين بها، حيث لا يوجد أي نص قانونی یعفی أي محكوم عليه من تنفيذ الأحكام القضائية سواء أكان مؤسسة عمومية أو غيرها مادامت تلك الأحكام مذيلة بالصيغة التنفيذية). لا يبقى إذن، أي مجال للشك في مدى القوة الإلزامية للأحكام القضائية تجاه الجميع أشخاص عمومين أو غيرهم، دون اعتبار لمصدر أموالهم.
وبالنظر الى حيثيات هذه القضية، فإن الاعتماد على ملاءمة ذمة المؤسسة العمومية المحكوم عليها، لإقرار عدم حجز أموالها، أمر غير مجدي، لأن ذلك سيجرد الحكم من فعاليته، ويجعل تنفيذه رهينا بإرادة المؤسسة المعنية وبنزواتها المتقلبة. ولتجاوز هذا الوضع، أجاز القاضي لجوء المدعية لأسلوب الحجز لدى الغير[6] باعتباره الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى تنفيذ الحكم الصادر في حقها. .
أضف إلى ذلك، أن هذا الإجراء ممكن التطبيق في هذه النازلة «مادام لا يوجد أي نص قانوني صريح ينع ذلك». فالمشرع لم يستثن أيا كان من الحجز على أمواله، ولم يخضع المؤسسات العمومية في هذا الصدد لنظام خصوصي ولكن كانت هذه المؤسسات عامة، فهي من أشخاص القانون، وبهذه الصفة لها كباقي أشخاص القانون الآخرين، نفس الحقوق وعليها نفس الالتزامات، المتجلية أساسا في احترام مبدأ المشروعية الذي يعد تنفيذ الأحكام القضائية إحدى ركائزه الأساسية، فالمؤسسات العمومية تخضع للشريعة العامة في مجال تنفيذ الأحكام القضائية في حالة رفضها الإذعان لهذه الأحكام، لأن المشرع لم ينص على خلاف ذلك، وكل ما لم يحظره المشرع صراحة، فهو جائز، وبالتالي فإن القاعدة المعمول بها هنا، هي أن سكوت المشرع يعد بمثابة قبول ضمني لجواز تطبيق المقتضيات المسطرية المسكوت عنها في المادة الإدارية، ففي غياب تدخل تشريعي صريح، يقر خلاف ماهو منصوص عليه في قانون المسطرة المدنية - المعمول به أمام القضاء الإداري - فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية، يجوز استعمال وسيلة الحجز لدى الغير لإجبار المؤسسة العمومية المحكوم عليها على التنفيذ، وأداء التعويض المحكوم به لفائدة المدعية.
3- والجدير بالذكر، أن القاضي اعتمد هذه القضية أسلوبا استنباطيا لتبرير حكمه، حيث استنتج من غياب نص قانوني يمنع صراحة حجز أموال المؤسسات العمومية، إمكانية اللجوء الى هذا الإجراء بالنسبة لتلك المؤسسات، في حالة امتناعها عن تنفيذ حكم بدون مبرر، وهذا الأسلوب ليس جديدا، إذ سبق للقاضي أن تبناه من قبل في قضايا.
تتعلق بتنفيذ الأحكام [7] أو في مجالات أخرى ،[8] إلا أن هذا الحكم يتميز عن سابقيه، فكان القاضي من قبل يؤسس حكمه على مقتضيات محددة من قانون المحاكم الإدارية، ويعطيها تفسيرا واسعا يستدل به لاستنباط جواز تطبيق الإجراءات المسطرية المسكوت عنها، كما هو الشأن مثلا بالنسبة / 90 . أما في هذه القضية، فتعليل القاضي جاء عاما ولا يستند لأي مقتضی معين، فهو يكتفي بالإشارة إلى المبادئ العامة، للدفع بحكمه في نفس الاتجاه الذي يقر تطبيق قواعد قانون المسطرة المدنية التي تجيز حجز أموال أي محكوم عليه، ولو تعلق الأمر بمؤسسة عمومية، لتنفيذ حكم قضائي، في غياب تدخل تشريعي صريح يحول دون ذلك، وهذا الموقف الذي أصبح أكثر تداولا من ذي قبل لدى القضاء الإداري، غداة شروع المحاكم الإدارية في مباشرة عملها، يكرس التوجه الجديد للقضاء الإداري الذي أضحى لا يقتصر بالحكم بها ورد بصريح النص، وإنما أيضا بما هو مسكوت عنه، ويعتبر في هذا الصدد صمت المشرع بمثابة مبدأ يجيز ضمنيا تطبيق القاعدة الهامة على الإدارة، ما لم يصدر أي قانون يقرر خلاف ذلك، ويحرم صراحة إعمال القاعدة المسكوت عنها عندما يتعلق الأمر بالإدارة، ويستجيب هذا التوجه لطبيعة القضاء الإداري باعتباره قضاء مبدعا وخلاقا، حيث ينظر القاضي الى سكوت المشرع، بأنه يشكل بذاته قاعدة قانونية، يستعملها أولا لملء الفراغ الحاصل من جراء هذا السكوت، ثم يستند إليها لإصدار حكمه، وما يترتب على ذلك، تفسير واسع للمقتضيات القانونية لصالح المتقاضين وتقييد أكثر للأشخاص العامة المرفقية بهذه المقتضيات وخاصة بمبدإ الشيء المقضي به، وتبعا لذلك، يجوز تطبيق الحجز كوسيلة من وسائل التنفيذ الجبري للأحكام المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية على المؤسسات العمومية الرافضة الامتثال حكم صدر ضدها، في غياب نص قانوني يحرم ذلك، وبهذا، يعطي القاضي الإداري لرغبة المشرع في الحفاظ على وحدة مسطرة التقاضي بالنسبة للخواص وأشخاص القانون العام، بعدا آخرا تتجلى أهميته القصوى في وحدة مسطرة التنفيذ.
لكن هذه الوحدة ذهبت في الحكم الذي نحن بصدده، أبعد كثير مما توقعناه من قبل، لما حكم القاضي على الإدارة بغرامة تهديدية. فكان تقديرنا للتوجه المستقبلي للقضاء الإداري في هذا الموضوع، دون ما جاء به الحكم الذي يهمنا في نازلة الحال، إذ حسبنا أن القاضي لن يجرؤ على إخضاع الإدارة لباقي وسائل التنفيذ الجبري المحددة قانونا، فتحفظنا إزاء تطبيق هذه الطرق في تنفيذ الأحكام، لا يجد في ظل هذه القضية ما يبرره، ولعل القاضي عازم كل العزم على استعمال كل هذه الوسائل تجاه الإدارة لإجبارها على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، فشرع في العمل بها تدريجيا، بدءا بالغرامة التهديدية، ثم بالحجز لدى الغير، وربما في المستقبل القريب بمختلف أنواع الحجز الأخرى، بغية إعطاء مدلوله الحقيقي وفعاليته الكاملة لمبدإ قوة الشيء المقضي به، وهذا التطبيق التدريجي لطرق التنفيذ الجبري، يتماشى والأسلوب البيداغوجي الذي ينهجه عادة القاضي، عندما يعتزم تجديد قضائه في مسألة حساسة كالتي تتعلق بعدم تنفيذ الأحكام القضائية من قبل الإدارة، فهل يجوز اعتبار هذا الحكم، خطوة أخرى نحو تعميم تطبيق كافة طرق التنفيذ الجبري على الإدارة بصفة عامة ؟ إن التكهن في هذا الموضوع سابق لأوانه، لأن الجواب رهين من جهة بتواتر قضاء المحاكم الإدارية ذاتها في قضايا مماثلة، ومن جهة ثانية بموقف المجلس الأعلى كقاضي درجة ثانية، لأنه من غير المستبعد أن يكون هذا الحكم قد استأنف أمام المجلس.
وبالرغم من وجود هذه الصعوبات، فإن هناك بعض المؤشرات الأساسية النابعة عن معطيات حالية، توحي بأن الجواب على هذا التساؤل، لا يمكن أن يكون عاما ومطلقا، فالنظر للمرحلة التي وصل إليها القضاء الإداري المتوفر لدينا، والتطور الذي حققه حتى الآن لتجاوز إشكال عدم تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة، يتعين الإمعان الدقيق في هذا القضاء، والتريث اللازم كي يتأتی استقراره، قبل أي استنتاج سریع، وإذا أبدى في هذا الصدد القاضي استعداده الكامل لتطبيق بعض - أو كل - طرق التنفيذ الجبري المقررة في قانون المسطرة المدنية، لمواجهة رفض الإدارة تنفيذ الأحكام القضائية التي تعنيها، يظهر لنا أنه يقوم بذلك في المرحلة الراهنة بتمييز بين الأطراف المحكوم عليها من جهة، وبين ماهو محکوم به من جهة أخرى، فحكم بغرامة تهديدية عندما تعلق الأمر بإدارة الدولة (وزارة التربية الوطنية) الإلزامها بالامتناع عن القيام بعمل، ثم قضى بالحجز على أموال شخص عام (مؤسسة عمومية) لإجباره على أداء تعويض. ويبدو هذا التمييز جوهريا، ويجب أخذه بعين الاعتبار في المرحلة الحالية للقضاء الإداري في موضوع تنفيذ الأحكام، كمحدد أو على الأقل كمؤشر لعلاقة بين صنف الأشخاص العامة المحكوم عليها، وما صدر به الحكم، وبين نوعية وسيلة التنفيذ الجبري المناسبة.
وكيفما كان الحال، فإن هذا التوجه الجريء والجديد للقضاء الإداري في مجال التنفيذ، لازال في بدايته ولم يكتمل بعد تطوره، فهو يحتاج لمزيد من الأحكام التي قد تحملها الأيام المقبلة لتحديد معالمه واستكمال أسسه، وتوضيح مضامينه وتفسير مبرراته، لتحقيق تواتره واستقراره، حتى تكون الإدارة ملزمة كأي محكوم عليه بالامتثال للأحكام الصادرة ضدها.
* هذه المجلة عدد 22 ص. 158، راجع تعليق الأستاذ
M. Antari, « Les limites des saisies-arrêts pratiquées à l'encontre des personnes publiques », cette Revue, no 23, p. 171. تجدر الإشارة إلى أنه سبق للمحكمة الابتدائية بالرباط، أن قضت بحجز الحسابات البنكية لشركة في ملكية الدولة، وهي شركة وكوماكرية التي امتنعت عنتنفيذ حكم صادر ضدها : حكم 1985/ 12 / 16 ، المجلة المغربية للقانون، عدد 4، 1986، ص. 234 مع تعليق بالفرنسية للأستاذ، ح. الرزاني الشاهدي، ص. 183. ولكن هذه أول مرة، حسبما هو متوفر لدينا من قرارات وأحكام منشورة، يطبق فيها القضاء الإداري هذه الوسيلة للتنفيذ الجبري للأحكام الصادرة ضد الجماعات العمومية.
أ) بدأت بعض الوزارات في حكومة التناوب، تولي أهمية كبرى لظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها. وفي هذا الصدد، صدرت عن وزارة التربية الوطنية بتاريخ 1998/ 4 / 15 مذكرة رقم 98-239 تؤكد على وجوب تنفيذ جميع المصالح التابعة لها، للأحكام التي تكون الوزارة طرفا فيها، تماشيا مع
ب) 5وثقافة حقوق الإنسان التي تسعى هذه الوزارة.
[2] - حكم عدد 123، بتاريخ 6/3/1995، ملف رقم 94/13ث.
[3] طبقا لمقتضيات الفصل 147 من ق.م.م
[4] - قرار عدد 127 بتاریخ 1995/ 3 / 6 از راغ موح امعنان، قرارات المجلس الأعلى : المادة الإدارية، منشورات المجلس الأعلى في ذكراه الأربعين، مطبعة المعاریف الجديدة، 1997، ص. 301. المحكمة الإدارية بالرباط، عدد 134 بتاريخ 1997/ 3 / 6 ورثة العشيري، هذه المجلة، عدد (20-21، ص. 179 مع تعليقنا على هذا الحكم، هذه المجلة، عدد 23 المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد له پولوژ- شتنبر 1998.
[5] ينص هذا العدد الفصل 138 من ق.ل.ع. على أنه يجوز للدائن بدین مقترن بأجل أن يتخذ، ولو قبل حلول الأجل، كل الإجراءات التحفظية لحقوقه، ويجوز له أيضا أن يطلب كفيلا أو أية ضمانة أخرى أو أن يلجأ إلى الحجز التحفظي، إذا كانت له مبررات معتبرة تجعله يخشی إعسار المدين أو قراره
[6] الفصل 488 وما بعده الى الفصل496 من ق.م.م
[7] في غياب أي نص قانوني يستثني صراحة الإدارة من الغرامة التهديدية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية المعمول به أمام المحاكم الإدارية، فلا مانع من فرض هذه الغرامة عليها في حالة امتناعها عن تنفيذ حكم قضائي صدر في مواجهتها يتعلق بالإلتزام بقيام بعمل أو الامتناع عن القيام بعمل»، المحكمة الإدارية بالرباط، عدد 134 بتاريخ 1997/ 3 / 6 ورثة العشيري، هذه المجلة، عدد 20-21، ص. 179.
[8] تأسیس اختصاصه في مجال الاعتداء العادي، لجأ القاضي الإداري لنفس الأسلوب، من خلال تفسير واسع لمقتضيات المادتين 8 و19 من قانون المحاكم الإدارية، راجع في هذا الصدد:
حكم المحكمة الإدارية بمكناس عدد 18 بتاريخ 1996 5 / 2 زروال خديجة، هذه المجلة، عدد 16، ص. 155.
حكم المحكمة الإدارية بالرباط، عدد 87 بتاریخ 1996/ 59 عمر أكوح، نفس المرجع، ص. 149.
حكم المحكمة الإدارية بمراكش عدد 65 بتاريخ 1997/ 5 / 13 مازي علي، نفس المرجع عدد 19، ص. 106
.