نظرة نقدية لمقتربات دراسة التنشئة السياسية

 لقد انطلق رواد النظرية السلوكية من واقع مجتمع معين  هو المجتمع الغربي وكانت مختلف الدراسات التي أجراها الباحثون في مجال التنشئة السياسية قد اجريت على المجتمع الأمريكي ولهذا يصعب تعميم هذه نتائج هذه الأبحاث على مختلف الأنظمة السياسية وذلك لان الأمر يتعلق بالظاهرة الإنسانية هذا من جهة ومن جهة ثانية لان التوجهات والمواقف السياسية ترتبط أساسا بنوع الثقافة السياسية السائدة في كل مجتمع، والملاحظ أن الباحثين قد انطلقوا من مجتمعات تسود فيها تقافة سياسية ديمقراطية وتجاوز فيها المجتمع إشكالية الشرعية السياسية، وأصبح الإشكال الأساسي هو رصد التوجهات السياسية في  إطار لانتماءات الحزبية في إطار نظام سياسي اتفق في الجميع على قواعد اللعبة السياسية وأصبحت التعددية الحزبية أهم هده القواعد ولذالك بان الإشكال الأساسي لذا الباحثين هو رصد الانتماءات الحزبية للأفراد او نسبة تعاطفهم مع هذا الحزب و ذاك من اجل معرفة نتائج الانتخابات وما سيفسر عنه وصول هذا الحزب او ذالك من تغيير في السياسة العامة للبلاد

ان هدا النوع من الإشكاليات يهم نظاما معينا من الأنظمة السياسية هو النظام الديمقراطي الغربي ولذلك من الصعوبة بما كان تعميم نتائج الأبحاث التي أجريت على هذا النوع من الأنظمة على كافة المجتمعات والنظم السياسية على اختلاف مبادئها وثقافتها

ان مسالة الشرعية لا تزال أهم الاشكالات المطروحة في العديد من أنظمة دول العالم التالت ورصج المواقف و التوجهات السياسية في هذه الأنظمة يطرح إشكاليات أخرى مختلفة للإشكالات المطروحة في الدول الديمقراطية.

كما آن ربط عملية التنشئة السياسية بعدد السلوكات السياسية كالتصويت مثلا يحد من إبعاد هذه العملية وفي الوقت ذاته يحصر وظيفة التنشئة فقط في مسالة ضمان استقرار النظام السياسي، وذلك يجعل من التنشئة عملية محددة تنحصر في إطار معين هو الإطار الرسمي للدولة ويجعل منها وظيفة  خاصة بالدولة الذي يجعل منها وظيفة خاصة  غير إن الواقع يبثث بان هذه العملية تتم غيظا من طرف فاعلين آخرين داخل المجتمع.

ومن خلال ذلك كله تتضح هشاشة النظرية السلوكية في دراسة التنشئة السياسية ذلك ان نجاح اي نظرية يقدر بمدى إمكانية تعميميها على الظواهر السياسية عبر الزمان والمكان

أما بنسبة لنظرية بورديو فيمكن القول بأن هذه النظرية قد وضعت أصبع الاشارة على بعض الظواهر السياسية المتربطة بالتنشئة كظاهرة العادة و التعود و دورها في اكتساب المعارف السياسية و ظاهرة الارتفاء السياسي للأفراد و علاقة هذا الارتقاء بالمكانة الاجتماعية للفرد داخل المجتمع، و إذا كانت العادة ظاهرة عامة يمكن تعميمها بالنسبة لمختلف المجتمعات فإن درجة تأثيرها في سلوك الفرد تبقى نسبية فالفرد قد يتلقى بعض المفاهيم و العادات و المبادئ الاجتماعية أو السياسية و يعتاد عليها لفترة من الزمن وسط الجماعة التي ينتمي إليها , ثم يتخلى عنها عن هذه العادات و المبادئ في أول فرصة تسمح له بمعرفة مبادئ و عادات و مفاهيم أخرى يكتشفها عند جماعة أخرى و تبدو له أنسب من المفاهيم و المبادئ التي نشأ و اعتاد عليها , و نسوق هنا مثالا لتوضيح هذه الظاهرة:

  نفترض أن شخصا نشأ وسط جماعة اعتاد فيها على مبادئ تقليدية محافظة ثم نتقل لسبب أو لأخر إلى جماعة تعيش ظروف الحداثة ولديها سلوكات أكثر تحررية و مبادئ تقدمية فمن المحتمل جدا , إن لم نقل من الأكيد أنه سوف يتأثر بمبادئ الجماعة الجديدة و ستتغير سلوكانت حسب وضعه الجديد داخل المجتمع الجديد فالبدوي مثلا نادرا ما يحافظ على نفس اللباس و نفس العادات إذا ما انتقل للعيش في المدينة.

 إلا أن هناك نقطة رئيسية و هامة ينبغي الإشارة إليها هنا , و هي أن التحول الذي يحدث في سلوكات الفرد و معتقداته لا يكون أولا يتم بشكل تلقائي أو آلي (automatique) , أي أن التغيير لا يحدث بصفة حتمية لذا كل الأفراد و حى لو حدث لمعظمهم فسوف لن يكون بنفس الدرجة و إن تم إخضاعهم لنفس الظروف المؤدية للتغيير , و هنا نطرح تساؤلا هاما:

   لماذا لا يكون التغيير الحاصل في العادات و التقاليد مماثلا بالنسبة لكل الأفراد رغم خضوعهم لنفس الظروف؟

 إن الأمر يتعلق أولا بظاهرة إنسانية يصعب رصد تطورات و عوامل تأثرها , و بالإضافة إلى ذلك , لا ينبغي أن ننسى بأن الفرد موضوع التنشئة هو كل شيء كائن فاعل لا يتأثر فقط بل يتفاعل مع المحيط الذي يعيش فيه فيتقبل بعض السلوكات بسهولة و يتكيف معها من جهة , و يرفض سلوكات أخرى و لا يتقبلها و هي و إن فرضت عليه داخل الجماعة و امتثل لها بفعل الخوف أو الحياء , فإن سينبذها و يبتعد عنها أول فرصة تسمح له بالتحرر من قيد الجماعة

غير أن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بكون مسألة العادة و التعود تلعب دورا هاما في نقل المبادئ و الأفكار و العادات المتوارثة و التي قد تحمل في طياتها أبعادا سياسية عميقة.

كما أن فكرة ارتباط الارتقاء السياسي بالاتقاء الاجتماعي عند بورديو , تعبر عن حقيقة يمكن لمسها في مختلف الأنظمة السياسية، ذلك أن معظم الزعماء السياسيين غالبا ما يرتقون في المناصب الهامة في الدول إلى غاية الوصول إلى أعلى المراتب في الهرم السياسي و يساعدهم في ذلك وضعهم الاجتماعي المتميز.

أما فيما يخص نظرية بياجي فنلاحظ أن هذا الباحث قد اهتم بمرحلة الطفولة في دراستها للتنشئة السياسية , و رغم إمكانية تعميم النتائج النظرية التي توصل إليها و إمكانية ملاحظتها على صعيد مرحلة الطفولة فإن دقة النتائج التي يمكن الحصول عليها في إطار هذا النوع من الدراسات يبقى نسبيا و يربط أساسا باختلاف الظروف النفسية و الاجتماعية التي بعيشها الأطفال.

و إذا كانت مرحلة الطفولة هامة جدا بخصوص اكتساب المعارف السياسية لذا الأفراد و تكوين مواقفهم السياسية , فينبغي الإشارة إلى ثمة عوامل موضوعية تتدخل في طبيعة هذا التكوين.

فطبيعة النسيج الاجتماعية (تقليدي أم عصري , تحديثي أو محافظ   ) تلبعب دورا كبيرا في تحديد المسار السياسي للفرد داخل المجتمع , و طبيعة الوسط النفسي الذي يعيشه الطفل داخل الأسرة و كذلك المستوى الاجتماعي و الثقافي لهذة الأخيرة، تعتبر عوامل تلعب دورا كبيرا في طبيعة نقل لمعارف السياسية للطفل كما أن طبيعة السلوكات الاجتماعية داخل الوسط الذي يعيش فيه الطفل (الأسرة , المدرسة , الحي   ) تحمل دلالات سياسية تنعكس بشكل واضح على السلوكات و المواقف السياسية للفرد.

و عموما فإن مرحلة الطفولة لا تشكل في رأينا سوى طورا من بين أطوار التنشئة السياسية التي يخضع لها الفرد عبر مختلف مراحل حياته من خلال تطر أدواره الاجتماعية (طفل , مراهق , شاب , رب أسرة , أو شيخ يربط بين تاريخ سياسي ماضي وواقع سياسي حالي  ) و أدواره السياسية كملتقى للقرار السياسي أو مشارك فيه (تلميذ , أو طالب , عامل أو موظف , رئيس مصلحة إدارية , برلماني , وزير , رئيس دولة )


المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق